أولًا: المكان
تقع منطقة “الشعيطات” في ريف محافظة دير الزور الشرقي وعلى الضفة الشمالية لنهر الفرات. تتشكل المنطقة من ثلاث بلدات هي، من الغرب إلى الشرق، أبو حمام والكشكية وغرانيج.
ثانيًا: الناس
“الشعيطات” هو اسم عشيرة عربية مسلمة سنية وهي فرع من قبيلة “العكيدات” الزبيدية. تُشير تقديرات سابقة على العام 2014 إلى أن عدد سكان المنطقة كان أكثر بقليل من مئة وخمسين ألف نسمة. لكن وقائع ما بعد ثورة العام 2011 أدت إلى تزايد عدد قاطني المنطقة التي استقبلت النازحين من أبناء المدينة بدير الزور الذين اضطروا إلى النزوح منها بسبب قصف نظام الأسد الذي كان قد انتهج العمل الأمني والعسكري للقضاء على الثورة. يعتمد أهالي المنطقة على الزراعة والتجارة بشكل رئيس لتحصيل أرزاقهم كما أن عددًا كبيرًا من أبناء المنطقة مهاجر في بلدان الخليج العربي وهؤلاء يشكلون سندًا مُعتبرًا ومفتاحًا أساسيًا لازدهار المنطقة اقتصاديًا.
ثالثًا: سياق الأحداث قبل المجزرة
مع انطلاق الثورة السورية في منتصف الشهر الثالث من عام 2011 بدأت بوادر حراك في منطقة الشعيطات. فخرج الأهالي فيها في مظاهرات سلمية نصرة لدرعا و حمص اللتان كانتا تتعرضان لهجوم عسكري من جانب قوات نظام الأسد. كما انشق عن جيش النظام عدد كبير ممَنْ يؤدون الخدمة الإلزامية من أبناء عشيرة “الشعيطات”. التزم هؤلاء المنشقون بيوتهم في بداية الأمر، لكن تصاعد القمع والحملات العسكرية من قبل النظام دفعهم إلى تشكيل أول فصيل مقاوم لقوات النظام. ثم جاء العام 2012 حيث وقع هجوم على شعبة تجنيد ناحية “هجين” وعلى مخفر شرطتها ومقر الأمن السياسي فيها. لم تسفر الهجمات عن وقوع ضحايا، سواء من جهة المهاجمين أو قوات النظام. على إثر ذلك اتهمت قوات النظام أهالي “الشعيطات” بهذه الحادثة، لتقوم في اليوم التالي بحشد قواتها و دباباتها لتقتحم قرى “الشعيطات”.
لكن الأهالي قاوموا هجمة النظام بأسلحتهم الفردية ونجحوا في ردها ودفعها للعودة من حيث أتت بحيث لم تتمكن من البقاء في منطقة الشعيطات إلى وقت حلول الظلام. ووقع عدد من أبناء “الشعيطات” شهداء وجرحى خلال عملية التصدي للقوات المهاجمة.
على إثر هذه الحادثة ازداد انخرط أبناء عشيرة “الشعيطات” في العمل الثوري العسكري بشكل أكبر وأكثر صراحة ضد قوات النظام حيث اتضحت نوايا النظام تجاه المنطقة كاملةً. علامة تصاعد الموقف بين أبناء المنطقة ونظام الأسد تجلت بصورة أوضح في شهر آب 2012 حين بدأ النظام السوري باستخدام الطيران الحربي ضد قرى و بلدات الريف الشرقي. تركز القصف وقتها على منطقة “الشعيطات” إلى جانب مناطق أخرى. ووقع عدد من الضحايا المدنيين.
هذا التصعيد من قبل قوات النظام دفع الأهالي إلى رفع سوية العمل الثوري؛ فشكلوا ألوية ساهمت في حصار مطار دير الزور العسكري على مدى سنوات طويلة. استمر الحصار المفروض على قوات النظام في مطار دير الزور العسكري، كما استمر تحجيم بقايا قوات النظام في المحافظة حتى عام بداية 2014. في ذلك الوقت، سَلَّمَ نظام الأسد الرقة بأكملها إلى تنظيم “داعش”، الذي ظهر حينها من العدم.
رابعًا: “داعش” يزحف
بدأ مقاتلو “داعش” بالزحف من الرقة إلى ريف دير الزور فاجتمع الرأي على قتال التنظيم وعدم السماح له بالدخول إلى مناطق ريف دير الزور الشرقي. فأبقت الفصائل التي تحارب النظام على بعض من قواها مرابطةً في مواقعها إزاء النظام فيما زجت بقسم آخر لوقف تمدد تنظيم “داعش” إدراكًا منها لطبيعة الممارسات الخاطئة و الفكر الظلامي و المصائب التي سيجلبها التنظيم على المنطقة في حال سيطرته عليها. ولهذا خاض المقاتلون من أبناء عشيرة “الشعيطات” حربًا ضروس مع التنظيم لعدة أشهر وسقط في خضم هذه الحرب العديد من الضحايا دفاعًا عن أرضهم.
لكن موازين القوى تحولت بشكل مفاجئ في شهر تموز من العام 2014. لقد كانت معارك الفصائل المقاومة لتنظيم “داعش” قد تركزت في منطقتي أساسيتين هما مدينة “البصيرة” غربًا، حيث تم وقف تقدم “داعش” فيها لفترة طويلة وانحصرت الاشتباكات في أطراف بلدة “الشحيل” من جهة الغرب، ومدينة “البوكمال” شرقاً. في هاتين المنطقتين كانت تدور أعنف المعارك إلى أن فوجئ الأهالي بتغير الولاءات ومبايعة جبهة “النصرة”، هيئة تحرير الشام حاليًا، تنظيم “داعش” و من ثم تسليمه مدينة “البوكمال”، رغم كل الضحايا الذين سقطوا دفاعاً عنها.
أُسقط في يد المقاتلين المقاومين وهبطت معنوياتهم؛ ولم يمض إلا فترة وجيزة لتسقط قرية “الشحيل” بيد تنظيم “داعش”. “الشحيل” التي كان يرابط فيها مقاتلو الشعيطات، وبسقوطها تحت سيطرة “داعش” تفتت الصخرة التي كانت تمنع التنظيم لفترة طويلة من التقدم و استكمال السيطرة على المنطقة.
خامسًا: “داعش” يسيطر
بالفعل، تقدم تنظيم “داعش” بعد أن قدم العهود والمواثيق بالحفاظ على دماء وأرواح الأهالي ودخل المنطقة، لكن عناصر “داعش” لم ينسوا المقاومة الشرسة التي أبداها مقاتلو “الشعيطات” طوال الأشهر السابقة. و بعد أسابيع قليلة من دخوله للمنطقة افتعل التنظيم حدثاً يستفزهم به، ودفع هذا التصرف مجموعة من أبناء الشعيطات يحملون السلاح ويهاجمون أحد مقرات تنظيم “داعش” وقضوا على جميع عناصره واستلم الشعيطات إدارة منطقتهم من جديد.
ومع إدراك سكان المنطقة، وخاصة المقاتلين منهم، أن المعركة مع التنظيم ستتواصل وتحسبًا لما يمكن أن يقترفه التنظيم في حقهم من جرائم، فقد أخرج عدد منهم أسرهم، وبوجه خاص الأطفال و النساء و الشيوخ، إلى القرى المجاورة.
و في بداية شهر آب من عام 2014 بدأ التنظيم بالتحشيد مجددًا ضد منطقة “الشعيطات” من جهة بلدة “أبو حردوب” غربًا، ومن جهة قرية “البحرة” شرقًا، ومن جهة البادية، الشامية، عبر الضفة الجنوبية للفرات حيث نصب “داعش” مدافع حديثة كان قد استولى عليها في الموصل ونصبها فوق “تل الصالحية” المشرف على منطقة “الشعيطات” والقرى المجاورة لها.
بدأت المعركة بالتمهيد المدفعي و محاولات اقتحام منطقة “الشعيطات”. وبالمقابل استمات المقاومون من منطقة “الشعيطات” في الدفاع عن أرواحهم وبيوتهم و صمدوا بمفردهم لأكثر من 20 يومًا. زمن أجل حسم المعركة، أدخل التنظيم سلاح المفخخات الذي يستخدمه عندما يعجز في المقارعة المباشرة. فقام بتفجير عربات مفخخة تزن الواحدة منها آلاف الكيلو غرامات من المتفجرات. فكانت المفخخات إضافة إلى طول مدة الحصار، الذي فرضه على المقاتلين من أبناء “الشعيطات”، واستقدامه باستمرار تعزيزات عسكرية كبيرة وكذلك تحالفه مع بعض العشائر عوامل متكاملة ساهمت في حسم المعركة لصالحه.
خامسًا: “داعش” ينتقم
بسط التنظيم الإجرامي سيطرته على كامل منطقة “الشعيطات” وبدأ من توه حملة انتقام وحشية مديدة. قام “داعش” بقتل كل من وجده أمامه بُعيد انتهاء المعارك سواء كان مقاتلًا أم طفلًا أم شيخًا مُسنًا. فكان يصفهم بمحاذاة خنادق حفرها ويقتلهم ثم يُمثل بجثثهم وأخيرًا يُلقي جثثهم في الأخاديد المحفورة قبورًا لهم. أطلق “داعش” على مقاومي “الشعيطات” اسم “ضباع الشرقية” نقمة منه وتحويرًا للقب الذي يُطلق عليهم:” أسود الشرقية “. وأيغالًا منه في الوحشية، لم يدفن تنظيم “داعش” كل ضحاياه في مقابر جماعية، بل ألقى بجثث البعض منهم في العراء.
بطبيعة الحال، وثّق “داعش” أغلب جرائمه ضد أبناء “الشعيطات” بإصدارات مرئية بثتها معرفاته الإعلامية مفاخرًا بالفظائع التي ارتكبها بحقهم. ولم يغير التنظيم من ممارساته ضد أبناء “الشعيطات” حتى بعد أن أعدم “الشرعي” التابع له. “الشرعي” الذي أعلن أن عشيرة “الشعيطات” مرتدة وحكم بقتل أبناءها. “الشرعي” الذي أعدمه بتهمة العمالة لإيران.
أغلق التنظيم منطقة “الشعيطات” ومنع المرور منها لمدة 6 أشهر ونهب مقتنيات بيوت سكانها. امتد تعطش التنظيم للدماء ونقمته على “الشعيطات” حد أنه لاحق النازحين الذين خرجوا إلى القرى المجاورة فوسمهم بالمرتدين وقتل واعتقل العشرات منهم.
في نهاية العام 2020 اُكتشفت مقبرة جماعية تضم رفاة شهداء من أبناء “الشعيطات” في بادية قرية الجرذي بريف دير الزور الشرقي؛ هذه الجثث نُقلت وأُعيد دفنها في المقبرة التي ضمت شهداء مجزرة “الشعيطات”. إلّا أن الجراح في جسد “الشعيطات” لا تزال مفتوحة ما دام المئات من أبناء العشيرة مجهولي المصير حتى اليوم.