نشر هذا البحث في العدد المزدوج (19,20)، الجزيرة السورية ومنطقة الفرات: الواقع والمستقبل”، لمجلة القلمون الصادرة عن مركز حرمون للأبحاث المعاصرة في تموز 2022. 

خليل الحاج صالح

مقدمة

لازمت ظاهرة الإخفاء القسري معظم الثورات والتحولات السياسية الكبرى، لكنها ارتبطت بشدة بممارسات الأنظمة الاستبدادية من الأنماط كافة. إلّا أن إخفاء أشخاص عبر خطفهم أو عبر اعتقالهم دون تقديم معلومات عن مصائرهم بغرض إزاحتهم من ساحة العمل العام أو تصفيتهم ليست حكرًا على الدول، ذلك أن أطرافًا دون دولتية مارست وتمارس هذه السياسية في مناطق سيطرتها.

في سورية، يُدير النظام السوري سياسة إخفاء قسري للتخلص من معارضيه السياسيين؛ هذه السياسة رافقت قيام نظام الأسد الأب والأبن منذ العام 1970. إلا أن تصاعدها منذ انطلاق الثورة في العام 2011 كشف عن صناعة متكاملة للإخفاء القسري، هي الأوسع نطاقًا والأبعد أثرًا على المجتمع السوري في تاريخه الحديث، تديرها أجهزة أمن النظام والميليشيات المُلحقة به. بموازاة ذلك مارست أطراف ظهرت في سياق النزاع اللاحق على قيام الثورة سياسة إخفاء قسري بحق معارضين لها وبدوافع شبيهة بتلك التي لدى النظام. بطبيعة الحال، فإن نتائج سياسات هذه الأطراف في الإخفاء القسري لا تقل خطرًا على مستقبل السوريين ومستقبل الحل السياسي واستدامة السلام في البلاد لاحقًا عما مارسه النظام، حتى إن لم تصل من حيث اتساعها وشدتها مصاف الصناعة.

تُشير تقديرات متداولة اليوم إلى أن أكثر من مائة ألف سوري أُخفوا قسرًا منذ ربيع العام 2011. النظام السوري وحده مسؤول عن إخفاء ما يقارب 85% من هؤلاء، بينما تتوزع مسؤولية إخفاء 15% من هذا العدد بقية أطراف النزاع: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام-“داعش”، فصائل “الجيش الوطني، قوات سورية الديمقراطية-“قسد” وهيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقًا. إلا أن للإخفاء القسري على يد تنظيم الدولة الإسلامية-“داعش” في سورية طبيعته الخاصة. فقد استمر فقد وإخفاء المختطفين والمعتقلين أن انهارت البنية المركزية للتنظيم وآلت مناطق سيطرته ومعتقلاته ومقراته إلى الأطراف الأخرى. هذه الحقيقة تُشكّل جوهر الإشكال الذي يواجه ملف هؤلاء المخفيين وأُسرهم. فإذا يُرجح أن تكون قوى الصراع القائمة حاليًا أطرافًا مُرشحة للمشاركة في الحال السياسي المحتمل، فليس لأي منها مصلحة سياسية في السعي لكشف مصائر أو أماكن وجود هؤلاء أحياء كانوا أم أموات، كما أن هذه الأطراف عينها تتشارك المسؤولية عن الغالبية العظمى من حالات الإخفاء القسري الأخرى في سورية خلال العقد الماضي. تاليًا، فإن المختطفين والمفقودين على يد تنظيم الدولة الإسلامية-“داعش” يُخضعون لتغييب مُضاعف سواء بإرادة سياسية من الأطراف الوارثة للتنظيم أو عن قصور وسوء تدبير.

إشكالية الدراسة وأهميتها

تُركز إشكالية هذه الدراسة على مسعى تبين ملامح ملف الإخفاء القسري خلال السنوات الأخيرة في سورية عبر منظورات ومستويات متداخلة ومتشابكة تشمل الحقوقي والقانوني والسياسي. كما تستهل التفكير حول إمكان أن يبقى ملف الإخفاء القسري مسكوتًا عنه أو مغيبًا لدى الأطراف التي يُحتمل أن تُشارك في صياغة “الحل السياسي” في سورية. عمليًا، هذه الدراسة تبني إشكاليتها الرئيسة حول ما إذا كان تعقيدات الصراع في السياق السوري ستؤدي إلى احتمال أن تُغبن حقوق المنُتَهَكين مرة أخرى من جانب المنتهِكين، وما إذا كان ثمة احتمالات أخرى تُنقذ ملف المفقودين في سورية جملة، ومن ضمنهم المخفيين قسرًا على يد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام-داعش”، من تغييب إضافي.

لهذه الغاية فإن سير الدراسة يستهدف التعريف بالأطر القانونية الدولية بوصفها إطارًا ناظمًا للمحاكمة والتفكير في هذا النوع من الملفات؛ وفي السياق ذاته يُعرِّج على القوانين السورية ذات الصلة بالفقدان والغياب موضحًا قصورها عن معالجة ظاهرة بهذا الحجم والشدة حتى إن توفرت إرادة سياسية في المستقبل لتناول هذا الملف. وتُسمي الدراسة أيضًا أبرز المنتهكين على الساحة السورية خلال العقد الأخير في ما يخص المسؤولية عن الإخفاء القسري. وتركز في هذا الصدد على سيرورة تكون سياسة الإخفاء القسري على يد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام-داعش” في محاولة لإظهار طبيعته الخاصة وتعرضه لمساع طمس إضافية من قبل ورثة السيطرة على مناطق سيطرة التنظيم السابقة، قوات سورية الديمقراطية. في هذا السياق توضح مخاطر مسارعة دول متدخلة في الشأن السوري إلى دعم إجراءات ما بعد الصراع عبر تمويلات أعمال نبش غير مهنية وغير محايدة لمقابر جماعية في الرقة، رغم ما يمكن أن تسببه هذه الإجراءات من خلق أسباب جديدة للصراع في المستقبل. تُجيب هذه الدراسة أخيرًا عن سؤال ما هو الملجأ الأخير لملف المخفيين قسرًا في سورية؟ لتوضح إلى دور روابط الناجين وأُسر الضحايا في خلق مسار لمعالجة ملف الإخفاء القسري في سورية عبر العمل مع مؤسسات وهيئات الأمم المتحدة تلافيًا لطمسه وتغييبه وسعيًا إلى تحويله من ملف إلى قضية.

تكمن أهمية هذه الدراسة في محاولتها النظر في موضوع الإخفاء القسري في سورية عبر منظور يجمع ما بين التأريخ لجوانب منه ومعاينتها في ضوء القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان والمعطيات السياسية في السياق السوري. وهي بهذا محاولة مبكرة لجمع شتات هذا الملف بينما لا يزال الصراع متواصلًا. كما أن الدراسة تنال جزءًا من أهميتها في لفتها الأنظار إلى احتمالات أن يطغى السياسي على الحقوقي فتتكرر ظاهرة الإخفاء القسري دون معالجة أو محاسبة فيتكرر إفلات المنتهكين من العقاب مرة أخرى خلال نصف قرن.

أولًا: الإخفاء القسري: التعريف والنصوص الدولية الأساسية

يُعرَّف الإخفاء[1] القسري في المادة الثانية من “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري”[2] بأنه “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المخفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون”[3].

ولئن كانت الاتفاقيات تُعقد بين الدول، فإن الدول ليست الفاعل الوحيد في ما يخص المسؤولية عن خطف وإخفاء الأفراد بالقوة، هذا يصدق بوجه خاص في أزمنة النزاعات وتحلل سلطة الدولة وتفتت إرادتها الكلية. ولهذا فإن المادة الثالثة من هذه الاتفاقية تشمل أطرافًا دون الدولة يُحتمل أن تُخفي قسرًا أشخاصًا، لكنها تنص على مسؤولية الدولة عن التحقيق مع ومحاكمة المجموعات أو الأفراد المتورطين: “تتخذ كل دولة طرف التدابير الملائمة للتحقيق في التصرفات المحددة في المادة الثانية التي يقوم بها أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون دون إذن أو دعم أو موافقة من الدولة، ولتقديم المسؤولين إلى المحاكمة”[4].

تاليًا، فإن إشارة التعريف إلى الدولة والمجموعات والأشخاص المرتبطين بها لا يعفي المجموعات المسلحة غير الدولتيّة من مسؤولياتها القانونية، ذلك أن البرتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقية جنيف1949 ، الصادر في العام 1977، يرتب المسؤولية، وفق منطق  القانون الدولي الإنساني، باستخدام معايير بعينها. بعبارة أخرى،  المعايير هذه هي ما يجعل طرفًا ما مسؤولًا حين لا يكون دولة “مسلحة ومنظمة… وتحت قيادة مسؤولة… وتمارس سيطرة على جزء من الأراضي… وتقوم بأعمال عسكرية متواصلة ومُنسقة”. ويمكن استخدام عبارة إخفاء قسري عندما يمارس هؤلاء الفاعلين غير الدولتيين “بشكل متكرر الإخفاء بشكل منهجي أو على نطاق واسع يبلغ مستوى الجرائم ضد الإنسانية”[5].

في السياق السوري، تنطبق المسؤولية عن كل انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي على أطراف الصراع كافة، إذا استثنينا العامل الثقافي الذي يميز الجماعات الجهادية وعلاقتها بالقانون الدولي وحقوق الإنسان وتضمناتهما. لكن، وبما أن المسؤولية عن أفعال محددة هي مسؤولية فردية قانونًا، فإن ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات تبقى ممكنة حتى في حال لم تتول الدولة المعنية مسؤولياتها في الملاحقة القانونية،  كما في عدم إقرار التنظيم أو التشكيل المعني بمرجعية نصوص القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ذات الصلة وحتى في حال تفككت سلطة التنظيم أو التشكيل المركزية وفقد السيطرة على الأرض كما في حالة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”. كما أن ارتباط معظم أطراف النزاع في سورية بدول متدخلة في الشأن السوري الداخلي، وتاليًا تشابك المسؤوليات عن الانتهاكات الواقعة بحق سوريين، كما في حالة النظام السوري وقوات سورية الديمقراطية “قسد”، يمكن أن يعطل احتمالات المسائلة والمحاسبة لاحقًا. بيد أن هذا الواقع لا يُلغي ولا يُصادر حقوق الأفراد في مطلبي الحقيقة: ماذا ولماذا ومَنْ وكيف ومتى وأين- والعدالة: المسائلة والمحاسبة والمعاقبة وحفظ السردية، ما لم يتنازلوا هم عن هذه الحقوق.

“اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري” هذه تتأسس على مفهوم “الحق في معرفة الحقيقة”، سواء كان حقًا لفرد أم لجماعة، وغالبًا ما تكون هذه الأخيرة هي أسرة المخفي. هذا الحق يعني، في هذا السياق، معرفة ما حدث ولماذا وكيف ومَنْ المسؤول. وهو مفتاح الوصول إلى العدالة المتمثلة في مسائلة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات. وكان هذا المفهوم ظهر للمرة الأولى أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1977. والحق في معرفة الحقيقة ينبني بدوره على “الحاجة إلى معرفة مصير الأحبة المخفيين[6]التي أُقرت هي الأخرى بوصفها “حاجة إنسانية أساسية” من الجمعية نفسها في العام 1974. تاليًا، فإن الاعتراف بالحاجة إلى معرفة الحقيقة هو ما أوصل لأن يُؤطر هذا الحق في اتفاقية بين الدول.

أما آخر النصوص القانونية الدولية ذات الصلة بقضايا الإخفاء القسري فهو قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2472 الذي صدر في العام 2019. “تهيب” المادة الثانية من هذا القرار  “بأطراف النزاعات المسلحة اتخاذ جميع التدابير المناسبة للبحث بنشاط عن الأشخاص المبلغ عن فقدهم، والتمكين من إعادة رفاتهم، ومعرفة مصير الأشخاص المبلغ عن فقدهم دون تمييز سلبي، وإنشاء قنوات مناسبة تتيح الاستجابة والتواصل مع الأسر في عملية البحث، والنظر في توفير معلومات بشأن الخدمات المتاحة فيما يتعلق بالصعوبات والاحتياجات الإدارية والقانونية والاقتصادية والنفسية الاجتماعية التي قد يواجهونها نتيجةً لفقد أحد الأقارب، بوسائل منها التفاعل مع المنظمات والمؤسسات الوطنية والدولية المختصة”. كما تخاطب المادة الثالثة من القرار نفسه “أطراف النزاعات المسلحة أن يتخذوا وفقا لالتزاماتهم الدولية التدابير المناسبة لمنع فقد الأشخاص نتيجة للنزاعات المسلحة، من خلال تيسير لم شمل الأسر المشتتة نتيجة النزاعات المسلحة والسماح بتبادل الأخبار العائلية”[7].

مجموعة النصوص المذكورة هذه تُشكِّل الإطار النظري المرجعي، القانوني والحقوقي، للعمل على ظاهرة الإخفاء القسري بمعايير كونية. كما توفر مجموعة المفاهيم التي تنبني عليها أية آليات أو أدوات تساعد في الكشف عن مصائر المخفيين قسرًا في سياقات مخصوصة وجزئية.

ثانيًا: السياق السوري

  • الإخفاء القسري في سورية

لازمتْ ظاهرةُ الإخفاء القسري إعلانَ العمل بحالة الطوارئ في البلاد منذ العام 1963.  فكان نظام حكم الحزب الواحد الذي كرسه انقلاب العام 1963 المسؤول الأول والأكبر عن أعمال الإخفاء القسري طوال السنوات الستين السابقة. إلا أن شدة الظاهرة واتساعها وتكرارها ارتبط بقوة بعهدي الأسدين، الأب والابن، منذ العام 1970. إذ يبدو أن انقلاب الأسد الأب نجح في استثمار وتوظيف خليط المزايا التي وفرها نظام الحزب الواحد ونظام حكم الطغمة العسكرية الحاكم حينه إلى تلك التي يقدمها نظام الحكم الفردي والبعدين الطائفي والعشائري في خلق دوائر مغلقة تتحكم الأضيق فيها بالأوسع بكفاءة واضحة. تتبدى فعالية هذه الدوائر، بوجه خاص، في وفرة الأجهزة الأمنية والعسكرية شبه الرسمية وأدوارها. كما تظهر في تحويل عدد من مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني إلى أجهزة ضبط ومراقبة ومعاقبة رديفة.  إذ لا يُعرف تسلسل هرمي للقيادة يربط سرايا الدفاع بوزارة الدفاع في ثمانينيات القرن الماضي، كما يُحاجج البعض في عدم دستورية ما يُسمى بـ”المخابرات الجوية” و”الأمن العسكري”، إضافة إلى أجهزة قضائية استثنائية مثل “محاكم الميدان” و”محكمة أمن الدولة”، السلف المباشر “لمحكمة الإرهاب” المعمول بها حاليًا. هذه الأجهزة جميعًا مارست الاعتقال وإعادة الاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب والقتل تحت التعذيب قبل وبعد العام 2011.

اعتمد نظام الأسدين على الاعتقال السياسي طوال سني حكمها بوصفه آلية نشطة ودائمة في إزالة كل أشكال الاعتراض بغض النظر عن طبيعة هذا الاعتراض ودوافعه. ولنظام الاعتقال هذا طبيعته الفريدة؛ إذ ينبني في ويستمد سطوته من حالة استثناء مُستدامة. استثناء النظام نفسه من كل مسلك دولتي واستثناء معارضيه من أي حقوق أو ضمانات بما فيها تلك المنصوص عليها في الدساتير السورية، إذ يلجأ القضاء عادة إلى تكييف التُهم كي تتناسب مع نصوص مواد قانون العقوبات التي تُسهل إصدار الأحكام في حال وصل المُعتقل إلى القضاء. في سورية، وخلال مواجهات ثمانينيات القرن العشرين كما أثناء ثورة العام 2011 وتداعياتها، كان كل اعتقال، من حيث المبدأ، مقدمة لإخفاء قسري. ووراء كل إخفاء قسري عمد الإبادة السياسية للمعارضين أفراد أو تنظيمات، والشواهد الموثَّقة المكتوبة والمصورة أكثر من أن تُحصى، لا سيما تلك التي تراكمت بعد ثورة العام 2011 وتداعياتها.

على صعيد القانون الدولي، جابه نظام الأسد الابن كل محاولة لتصنيف “النزاع في سورية”  “نزاعًا مسلحًا غير دولي”. وهو بذلك يتسق شكلًا مع متطلبات القانون الدولي، الذي يتحول في هذه الحالة إلى غطاء لتطبيق “مبدأ السيادة” بوصفه نظام سياسي يحكم دولة سيدة تُحارب “عصابات مسلحة” و”إمارات سلفية” و”إرهابيين” و”مندسين” و”جراثيم”، حسب اللغة التي استخدمها النظام السوري بعد العام2011؛ كما يصب ذاك في سياق كسب نوع من شرعية الأمر الواقع تجاه القوى الدولية، الأمر الذي تحقق بوجه خاص بعد تبلور ملامح الحالة الجهادية في سورية بعد العام 2013.

ظاهرة الإخفاء القسري في سورية بعد العام 2011 فريدة بين مثيلاتها في تاريخ النزاعات الداخلية من حيث اتساعها وتنوع ضحايا ومُسببيها وأسبابها كما من حيث شدتها واتساع نطاقها الجغرافي. إذ أن مسالك السوريين نحو الشتات شهدت أيضًا فقد الآلاف ممَنْ لا تُعرف مصائرهم اليوم. ويُرجح أن يواجه المجتمع السوري عقابيل الاختفاء القسري على المستويات الاجتماعية ولاقتصادية والنفسية والسياسية لأجيال قادمة حتى في حال توفرت الإرادة والموارد والأدوات اللازمة لمعالجة كل ما يتصل به من مشكلات.

  • المُنتهكون في السياق السوري

لا تتوفر إحصاءات رسمية لإعداد المعتقلين والمخفيين في سورية “نتيجة ً مسعى ملموس من النظام لإغلاق منافذ الوصول إلى مراكز الاحتجاز”[8]. لكن قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان تُشير إلى أن 102287 شخصًا في عداد المخفيين قسرًا في سورية. هذا العدد، حسب الشبكة، يغطي الفترة الفاصلة بين آذار 2011 و آب 2021، كما يشمل المخفيين قسرًا لدى كل أطراف النزاع وقوى الأمر الواقع على التراب السوري. وتُفصل الشبكة أرقامها كالآتي:

  • النظام السوري الذي يُخفي قسرًا 86,792 شخصًا، منهم 4986 امرأة و1738 طفلًا؛ ويُشكِّل مجموع المغيبين على يد نظام الأسد ما نسبته 84,85% من إجمالي المخفيين قسرًا في سورية بين التاريخين المذكورين.
  • في المرتبة الثانية، بعد النظام السوري، يأتي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” المسؤول عن الإخفاء القسري لـ8648 شخصًا، بينهم 255 امرأة و319 طفلًا؛ وهؤلاء يشكِّلون ما نسبته 8,45% من مجمل حصيلة المخفيين قسرًا في سورية في الفترة نفسها.
  • تلي تنظيم داعش فصائل الجيش الوطني المسؤولة عن تغييب 2567 شخصًا، بينهم 446 امرأة و237 طفلًا؛ أي أن هذه الفصائل مسؤولة عن تغييب ما نسبته 2,51 من مجمل أعداد المخفيين قسرًا في سورية في الفترة عينها.
  • تلي فصائل الجيش الوطني في حجم المسؤولية عن الإخفاء القسري قوات سورية “قسد” الديمقراطية التي تُخفي قسرًا 2216 شخصًا، بينهم 86 امرأة و98 طفلًا؛ وتُشكل نسبة من غيبتهم هذه القوات 2,17% من مجمل ظاهرة الإخفاء القسري في سورية بالفترة المدروسة.
  • وأخيرًا تُظهر قاعدة بيانات الشبكة هذه مسؤولية هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقًا، عن إخفاء 2064 شخصًا قسرًا، بين هؤلاء 28 امرأة و13 طفلًا؛ وتاليًا فإن مسؤولية هذه الهيئة تغطي ما نسبته 2,02% من إجمالي حصيلة المخفيين قسرًا في سورية خلال الفترة المذكورة نفسها.

لكن ثمة عوامل عديدة تدعو للحذر من اعتماد هذه الأرقام دون نقدها، رغم عدم وجود مصادر بديلة لتقدير حجم ظاهرة الإخفاء القسري في سورية. بطبيعة الحال، لا ينصب الحذر النقدي على أرقام الشبكة السورية لحقوق الإنسان وحدها، بل يطال أي محاولة لتقديم بيانات دقيقة في الحالة السورية بعد العام 2011. فبينما اتسم العامان الأولان من الثورة في سورية طابع المواجهة بين النظام وقطاعات واسعة من الشعب السوري، اتخذ النزاع في البلاد بشكل متدرج، بعد العام 2013 على الأقل وخروج النزاع عن إطاره الوطني وبدء التدخلات الخارجية المباشرة، صورة حرب بالوكالة متشابكة بعناصر من حروب الجيل الرابع؛ ومن سمات هذا النوع من النزاعات انمحاء الفوارق الجوهرية بين المدنيين والمقاتلين المُسلحين بالنسبة لأطراف النزاع. معظم هذه الأطراف أنزل عقوبات جماعية دون تمييز بالبيئات الاجتماعية لطرف أو أطراف أخرى، مثل التهجير والاعتقال والقتل والإخفاء القسري ومصادرة الممتلكات.

كما أن موجات التهجير والنزوح مع كل تغير حدث في السيطرة على الأرض خلال السنوات الماضية كانت عاملًا إضافيًا في تفتيت المجتمعات المحلية، تاليًا في تجهيل مصائر الآلاف ممَنْ غادروا مناطق سكناهم الأساسية وممَنْ فُقدوا أثناء رحلات الفرار. فلا تُعرف حتى اليوم مصائر من اختطفهم تنظيم “داعش” أو مَنْ كانوا في سجونه عشية انهياره وتلاشي سيطرته على مناطق واسعة في سورية بين العامين 2013 و2019.

ثمة أيضًا الدور الذي تلعبه الثقافة السياسية لأطراف النزاع في سورية. فأطراف الصراع المسلح الأساسية، المعتمدة حاليًا من قوى إقليمية أو دولية، تبني دعاواها على دوافع دينية أو قومية أو طائفية، مضمرة كانت أم صريحة. يُضاف أن لبعضها دعاوى قومية أو دينية أبعد من الكيان السوري القائم ما يزيد حدة الصراع ويحد من التزاماتها بالقانون الدولي الإنساني وبالقانون الدولي لحقوق الإنسان، كما يحد من مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه المجتمعات المحلية. بموازاة ذلك، يرتبط بهذه النقطة الأخيرة حقيقة أن طرفين، على الأقل، من أطراف النزاع في سورية، النظام السوري وقوات سورية الديمقراطية، يصيغان جُل دعاويهم ويُشكِّلان خطابيهما ودوريهما وفق سردية “محاربة الإرهاب”. وهذا يوفر لهما هوامش واسعة جدًا من العمل دون اعتبار أي معايير قانونية أو حقوقية أو أية رقابة من أطراف ثالثة، بل وبكثير من القبول والتساهل من الدول الداعمة.

يُضاف إلى ذلك أن المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أوقفت، في مطلع العام 2014، “محاولات إحصاء قتلى الحرب في سورية…لأن أفراد المفوضية لا يستطيعون الوصول بشكل كافٍ إلى مناطق القتال للحصول على أرقام دقيقة”[9]. بطبيعة الحال، توقف المفوضية عن عملها لم يقتصر على تعداد أعمال القتل، بل طال مراقبة الانتهاكات المرتكبة كافة. كما لم يكن اعترافًا بالعجز عن مراقبة انتهاكات النظام وحده، بل إخلاء الساحة أمام النظام وأطراف النزاع الأخرى والاكتفاء بمراقبة المشهد من الخارج. ولا تزال قدرة الوكالات والهيئات والمنظمات الأممية والدولية في الوصول إلى مصادر معلومات مستقلة أو إلى أماكن النزاع مقيدة أو منعدمة.

ضعف أو انعدام أو، حتى عدم الرغبة في، الوصول إلى المناطق المشتعلة أو القلقة في سورية ينطبق بالأحرى على منظمات المجتمع المدني السورية المعنية بالقضايا الحقوقية، سواء تلك المستقلة والمهنية منها أو تلك المُنشأة كواجهات مدنية لجهات سياسية أو قوى أمر واقع. معظم هذه المنظمات مُرخص في ويعمل من الخارج أيضًا مما يجعله رهن الأجندات، المُعلنة أو المُضمرة، للممولين؛ وهذه الأخيرة مبنية على اعتبارات سياسية تخص المانحين والأطراف المحلية المرتبطة بهم: لمعظم الدول المانحة انخراط مباشر بمجريات الصراع في سورية ولعدد منها حضور عسكري مباشر. تاليًا، فإن المأزق الحاصل في وعن عمل هذه المنظمات هو أن تعمل عن قرب، لكن دون أن توثيق لقوة الأمر الواقع المسيطرة في منطقة عملها، أو أن تعمل عن بعد وتوثق انتهاكات هذه القوة لكن مع فقدان أعمال التوثيق جزءًا على الأقل من موثوقيتها.

بإيجاز، في ظل تورط كل أطراف النزاع في سورية بانتهاكات، من ضمنها الإخفاء القسري، وغياب الوكالات الأممية والمؤسسات الدولية المستقلة والمحايدة، وغياب منظمات مجتمع مدني محلي مستقلة ومهنية وموضوعية تعمل وترصد عن قرب، ستبقى أعداد المخفيين قسرًا في سورية غير مؤكدة ولا دقيقة وستبقى خاضعة لإعادة النظر. ولا يُتوقع أن يحصل توافق بين أطراف النزاع وقوى الأمر الواقع القائمة حاليًا، بما فيها النظام، للعمل على ملف المخفيين قسرًا بغية كشف مصيرهم وتحقيق العدالة لهم ولأسرهم.

  • المفقودون في القوانين السورية

ينص القانون المدني السوري رقم 48 للعام 1949 في المادة 34: “يسري في شأن المفقود والغائب الأحكامُ المقررة في قوانين خاصة؛ فإن لم توجد فأحكام الشريعة الإسلامية”. كما يورد قانون الأحوال الشخصية السوري رقم 59 للعام 1959 تعريف المفقود بأنه: “كل شخص لا تُعرف حياته أو مماته أو تكون حياته مُحققة ولكنه لا يُعرف له مكان”. ويُضيف هذا القانون نفسه: “يُحكم بموت المفقود بسبب العمليات الحربية أو الحالات المماثلة المنصوص عليها في القوانين العسكرية النافذة والتي يغلب عليها الهلاك وذلك بعد أربع سنوات من تاريخ فقدانه”. كما عاد المرسوم التشريعي رقم 15 للعام 2019 إلى تأكيد مدة السنوات الأربع هذه في المادة الأولى منه: “يُعد المفقود الذي تحققت واقعة فقدانه اعتبارًا من تاريخ 15-03-2011 بسبب الحرب أو العمليات الحربية أو على يد عصابة إرهابية أو عناصر معادية شهيدًا بعد أربع سنوات من فقدانه وصدور حكم بوفاته”. ربطًا بما سبق، فإن سورية تفتقر إلى بيئة تشريعية أو مؤسساتية تصلح لمعالجة ملف المخفيين قسرًا. فعلاوة على قدمها وتخلفها عن التغيرات الحادثة في المجتمع السوري وتعقده كما عن التطورات المتسارعة في البيئة التشريعية الدولية، فإن القوانين المتوفرة في التشريعات السورية في موزعة بين “قانون الأحوال الشخصية العام” و “القانون المدني. كما لا توجد أي هيئة أو مؤسسة تعنى بملفات المفقودين بما هي كذلك. بل يُحتمل أن تبدأ صعوبات النظر في هذا الملف ومعالجته في المستقبل من التعريفات والدلالات اللغوية. فبينما يُحيل الإخفاء القسري إلى سياسات أو، على الأقل، ممارسات مقصودة وممنهجة، فإن القوانين السورية تُشير إلى “مفقود أو غائب” في سياق معالجة مشكلات الإرث أو الولاية على قاصر أو الزواج أو ترسيم المفقود “شهيدًا.

ربطًا بما سبق، فإن سورية تفتقر إلى بيئة تشريعية أو مؤسساتية تصلح لمعالجة ملفًا بحجم ملف المخفيين قسرًا بعد العام 2011. فعلاوة على قدمها وتخلفها عن التغيرات الحادثة في المجتمع السوري وتعقده كما عن التطورات المتسارعة في البيئة التشريعية الدولية، فإن القوانين المتوفرة في التشريعات السورية موزعة بين “قانون الأحوال الشخصية العام” و “القانون المدني وُضعتْ لتغطي حالات فقد أشخاص في أحوال طبيعية وبأعداد محدودة. كما لا توجد أي هيئة أو مؤسسة تعنى بملفات المخفيين قسرًا بما هم كذلك. بل يُحتمل أن تبدأ صعوبات النظر في هذا الملف ومعالجته في المستقبل من التعريفات والدلالات اللغوية. فبينما يُحيل الإخفاء القسري إلى سياسات أو، على الأقل، ممارسات مقصودة وممنهجة، فإن القوانين السورية تُشير إلى “مفقود أو غائب” في سياق معالجة مشكلات الإرث أو الولاية على قاصر أو الزواج أو ترسيم المفقود شهيدًا.

  • المخفيون قسرًا على يد “داعش”: التغييب المضاعف

لا تتوقف النتائج السلبية المباشرة لظهور وصعود تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” في سورية عند ما لحق الحراك الشعبي وما حمله من وعود في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية من أضرار سياسية وتشوهات غَيَّرت طبيعة الصراع في سورية وصورته في الخارج لصالح النظام القائم، بل تعدتها إلى خلق وقائع اجتماعية وقانونية وحقوقية وسياسية يصعب تصور تجاوزها في المدى المنظور. ولعل ملف المخفيين قسرًا على يد التنظيم واحدً من أبرز تبعات سيطرة التنظيم على مناطق في سورية وأكثرها تمثيلًا على طبيعة “داعش” ودوره الموضوعي سياسًا في سورية مند خرجت بعض مناطق البلاد عن سيطرة نظام الأسد في العام 2013.

  • المخطوفون لدى “داعش

قضية المخفيين قسرًا على يد تنظيم “داعش” تشكلت زمنيًا وسياسيًا في سياق ما تصطلح أدبيات التنظيم على تسميته مرحلة “التمكين”. شملت هذه الفترة أعمال عسكرية وتدابير أمنية واجتماعية. عسكريًا، استهدف التنظيم توسيع رقعة سيطرته الجغرافية خارج مواضع تجمعه وتشكله الأولى؛ فتوسع على حساب ما كان يُسمى وقتها بـ”الجيش الحر” كما على حساب فصائل إسلامية أخرى منافسة، بما فيها جبهة النُصرة”، التنظيم الحاضن له قبل تمايزهما وتشكلهما تنظيمين مستقلين ومتنافسين. ثم توسع في مناطق ومواقع كان يُسيطر عليها نظام الأسد حينذاك. هذه المناطق تقع في محافظات حلب والرقة ودير الزور والحسكة وإدلب.

لكن  قُبيل بدء حملاته العسكرية خارج موضع تجمعه الأول في مدينة الرقة، كان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام-“داعش” قد شَنَّ منذ أيار 2013 حملة اغتيالات وخطف ممنهجة لحركيين وناشطين سياسيين وقادة مجموعات داخل المدينة التي كانت تشهد وقتها، ربيع وصيف العام 2013، حراكًا سياسيًا شبابيًا غير مسبوق في تاريخها. هذا الحراك الذي كان قادته ومادته شباب الثورة جرى حينها بانفصال ظاهر عن المجموعات المقاتلة المُسلحة. إذ كان تعبيرات الثورة تأخذ وقتها شكلًا مدنيًا سلميًا وآخر مسلحًا دون كثير من التفاهم أو التنسيق بينهما، بل وبشيء من عدم الثقة والترصد في كثير من الأحيان، دون حساب موقف المجموعات الجهادية التي كانت لها نظرة مختلفة كليًا لهذه القضايا.

وقتها ظهر 36 تجمعًا شبابيًا، معظمها كان نشأ بمناسبة خروج النظام من المدينة، هذه التجمعات الشبابية كانت تنشط دون مران في العمل العام المنظم ودون برنامج سياسي واضح. ومع ذلك، تنوعت أنشطتها بين المساهمة في تقديم الخدمات ومحاولات تنظيم شباب الحراك في أجسام سياسية أو حقوقية. كما كان مجتمع الثورة المحلي في المدينة يعاني من انقسام التمثيل بين مجلسين محليين. الأول يُسمى المجلس “المُنتخب” وكان تشكل في بلدة تل أبيض التي كان النظام خرج منها قبل طرده من الرقة بأشهر. أما المجلس الثاني فيُوصف بـ”المُعيَّن”، وهو المجلس الذي شُكِّل بالتزامن والتعاون مع الائتلاف تلبية في ما يبدو لخلق تمثيل محلي جديد للمدينة يتوافق مع بنية الائتلاف وتوجهاته السياسية.

عمليًا، كان هذا الحراك، إلى جانب عكسه لحيوية مجتمع الثورة المحلي وصراعاته، فرصة لانكشاف التجمعات المدنية والسياسية التي تمارس للمرة الأولى عملًا علنيًا منظمًا بعض الشيء وتصدر خطابًا صريحًا وتعكس انحيازات سياسية واجتماعية واضحة، بعد أن كانت مجموعات سرية تعمل على تنسيق المظاهرات والاحتجاجات وتقديم المساعدات الإغاثية للنازحين في المدينة من بداية الثورة في ربيع العام 2011 حتى خروج النظام منها في ربيع العام 2013.

فكان تنظيم “داعش” في هذه المرحلة يقرأ كتابًا مفتوحًا. ولهذا فقد بدأت خلايا تنظيم داعش الأمنية بأعمال خطف وتصفية انتقائية في أوساط ناشطي الحراك بكثير من السهولة. بمنظور راجع، يمكن القول إن لجوء التنظيم إلى هذه الممارسات هي طريقته الخاصة في تسوية الأرضية الاجتماعية السياسية والثقافية من أجل إفراد مشروعه بالتنفيذ والنجاح عبر ممارسات سياسية وأمنية مشابهة. وهذا أسلوب تلجأ إليها الأنظمة الشمولية عامةً من أجل القضاء على أو التخفيف من حجم ما يعترضها من أشكال المقاومة السياسية أو الاجتماعية. تاليًا، فإن أعمال الخطف والاعتقال في هذا السياق هي أعمال إرهابية تستهدف تحقيق غايات تكتيكية في مسار مشروع التنظيم حينها. بطبيعة الحال، نتائج هذه الأعمال لم تقتصر على الأفراد المُستهدفين بها ومحيطهم القريب وحسب، بل شملت قطاعات واسعة من المجتمعات المحلية التي فرض التنظيم رؤيته عليها بين العامين 2013 و2019.

كانت مدينة الرقة في ربيع وصيف العام 2013 أول مخبر يُجمِّع التنظيم فيه مناصريه ومنه ينطلق سواء في عملياته العسكرية أم في تنفيذ إجراءاته الأمنية والسياسية والاجتماعية. وإذ استهدف بداية ناشطون ومسلحون أقرب لأن يوصفوا بلغة فضفاضة “علمانيين” مستغلًا أجواء الانقسام بين “بني علمان” و”المجاهدين” حسب خطابه في تلك المرحلة، فإنه لاحقًا وسَّع دوائر الاستهداف لتطال بصورة متدرجة كل صور الاحتجاج والاختلاف على أيديولوجياه وممارساته وصولًا إلى معاقبة كل من لا يبايع التنظيم لاحقًا. في المرحلة المذكورة، وإذ استغل التنظيم كثرة المجموعات وتناحرها، فقد استثمر أيضًا في تردد قطاعات لابأس بها من المتلكئين الذين ظنوا أن ممارسات التنظيم ستُزيح من ساحة العمل السياسي المحلي منافسين لهم في تمثيل المجتمع، ما دام تنظيم داعش لا يريد ولا يعترف بالأجسام السياسية المُشكلة وقتها: بوجه خاص، المجالس المحلية على صعيد تمثيل الوحدات الإدارية والمجلس الوطني ولاحقًا ائتلاف قوى الثورة والمعارضة لتمثيل مجتمع الثورة أمام النظام والمجتمع السياسي الدولي.

عمليات الخطف، المترافقة بتهديدات ورسائل صريحة وأخرى مبطنة، منها تسريب مقصود لقائمة أسمية تضمنت أسماء عشرات الناشطين والمعارضين، خلقت أجواء من الخوف والتشكك وزادت الفوضى والانقسامات في أوساط الناشطين. وبموازاة ممارسات تنظيم “داعش” داخل المدينة، كانت قوات النظام السوري تقصف المدينة بالمدفعية بصورة منهجية من مواقع الفرقة العاشرة، شمال المدينة. كذلك تعرضت المدينة لعدد من الغارات الجوية والصاروخية[10] أحدثت وقتها ثلاث مجاز كبرى: واحدة في شارع المتحف وأخرى في شارع 23 وثالثة في ثانوية ابن طفيل.

هذه الأجواء دفعت مَنْ نجوا من القتل والخطف إلى الفرار من المدينة، وخاصة بعد انهيار آخر خط للدفاع عن المدينة ومجتمعها في المعركة الفاصلة بين “لواء ثوار الرقة” من جهة، الفصيل الوحيد ذي الطابع المحلي الشعبي بين المجموعات التي ساهمت في عملية طرد نظام الأسد من الرقة في ربيع العام 2013، وخلايا تنظيم داعش في مطلع العام 2014 من جهة ثانية. هذه المرحلة وممارسات تنظيم المتشددة حيال المجتمع لاحقًا ساهمت في خلق شتات واسع النطاق في كل البيئات التي حكمها التنظيم، وما عاد الأمر يقتصر على مجتمع الثورة وحده، بل شمل قطاعات واسعة من موالي النظام والحياديين غير المكترثين . عمليًا، تشكلتْ خريطة تشتت السكان المحليين تبعًا لمواقفهم السياسية فتوزعوا في أربعة فئات أساسية: ففيما اختار ناشطو الثورة والمعارضون السياسيون الخروج إلى تركيا، وأكمل الكثير منهم طريقه إلى أوربا في السنوات اللاحقة، اختارت فئة أقل اهتمامًا بالشأن العام وذات أصول ريفية العودة إلى قراها، بينما اختار الموالون والمرتبطون اقتصاديًا بالنظام الالتحاق بمؤسساتهم وإداراتهم التي بدأت تباعًا بالعمل في مناطق سيطرة النظام، في مدينتي حماة ودمشق بالدرجة الأولى فيما بقي في المدينة الفئات الأكثر قابلية للتعايش مع أي سلطة. وهؤلاء كانوا  من أهالي المدينة ومن سكانها ومن الوافدين من باقي المحافظات، بالإضافة لمواليّ التنظيم[11]. هذا الشتات سيكون واحدًا من العوامل المؤثرة سلبًا قدرة فرق “الاستجابة الأولية” لاحقًا على تحديد هويات القتلى المدفونين في المقابر الجماعية التي تخلفت عن مرحلة سيطرة التنظيم بعد العام 2017، وتاليًا على إمكان كشف مصير الآلاف من الجُثث المُكتشفة في هذه المقابر، كما سنرى بعد قليل.

بالمقابل، كانت أعداد الجهاديين الأجانب تتزايد باضطراد وقدراته العسكرية تتعاظم وعملياته القتالية تشتد وجبهاته تتعدد. كما توسعت أعمال الخطف والاعتقال والإعدام، القصاص”، وقطع الأيدي لتشمل فئات جديدة من المُعاقبين بعد أن بدأ التنظيم في تطبيق رؤيته الأيديولوجية على المجتمعات المحلية.

قبل انتهاء العام 2014، أصبح معظم الجوف العربي السني في سورية تحت سيطرة تنظيم “داعش”. شمل هذا كامل محافظة الرقة ومعظم محافظة دير الزور وكل الريف الجنوبي من محافظة الحسكة ومعظم الريفين الشمالي والشرقي من محافظة حلب وأجزاء واسعة من ريف إدلب بالإضافة إلى معظم البادية التي تتقاطع فيها أرياف محافظات دمشق وحمص وحلب وحماة والرقة ودير الزور. وممارسات التنظيم المتبعة في الرقة تكررت في كل المناطق التي توسع إليها التنظيم لاحقًا، إلّا أن صدامه مع عشيرة “الشعيطات” في ريف دير الزور الشرقي أخذ طابعًا خاصًا إذ ارتبط بمقاومة شرسة من أبناء العشيرة لسيطرة التنظيم على منطقتهم التي تحتوي على عدد من آبار النفط في إضافة إلى أهمية الموقع الجغرافي لبلدات الشعيطات الثلاث، أبو حمام والكشكية وغرانيج[12]، بالنسبة لمسالك التنظيم بين سورية والعراق. ولذلك كان انتقام “داعش” من أبناء هذه العشيرة واحدًا من أشنع ارتكاباته في سورية وأكبرها حجمًا تجاه مجموعة سكانية بعينها. فقد اُستبيح أبناء هذه العشير للقتل والإخفاء القسري والتهجير الشامل وإغلاق بلداتهم أمام المرور لأشهر. بلغت الحصيلة النهائية التي انتهت إليها معركة السيطرة على منطقة “الشعيطات” ما يقار 700 قتيل ومفقود.

  • خارج الحسابات

بقيت ممارسات تنظيم داعش في سورية خارج رادار المجتمع الدولي، لكن تمدد التنظيم إلى العراق واستيلائه على مدينة الموصل في حزيران من العام 2014 دفع إلى تشكيل تحالف دولي عسكري من 60 دولة لمحاربة داعش. إلّا أن هجوم التنظيم على عين العرب/كوباني، ذات الأكثرية الكردية، في حزيران من العام 2015 وفَّر لهذا التحالف الدولي فرصة وقضية للتدخل في سورية.

بعد أن استقر التحالف الدولي على إعداد شريك محلي، “وحدات حماية الشعب”[13] الكردية، في الحرب على “داعش”، بدأت سلسلة طويلة من العمليات العسكرية والقصف الجوي ضد التنظيم. استمرت العمليات العسكرية حتى خريف العام 2019. سير العمليات قضم تدريجيًا مناطق سيطرة التنظيم ودفع قواته للتراجع باتجاه الجنوب.

بدأت عملية تطويق مدينة الرقة في 6 حزيران 2017، وهذه انتهت إلى دخولها في 17 شهر تشرين الأول من العام نفسه. العمليات القتالية في الرقة انتهت بمغادرة “مقاتلي “الدولة الإسلامية”، وعددهم بالمئات، الرقة بأمان مع التمتع بالحصانة التامة من المساءلة”[14]. إلّا أن القصف الجوي والمدفعي من جانب التحالف الدولي وقوات “قسد” خلال ثلاثة أشهر كان قد دَمَّر “80% من عمران المدينة” وخلَّف “1600” قتيلًا في “مصيدة الموت” هذه[15].

لكن ملف المخفيين والمعتقلين لدى “داعش” بقي مغيبًا عن النقاش العام كما عن اهتمام الأجسام السياسية المعبرة عن الثورة والمعارضة طوال هذه الفترة  وما تلاها. الأرجح، على مستوى التحليل، أن التغييرات السياسية التي أُحدثتْ في بنية هذه الأجسام وتحالفاتها الإقليمية ودور هذا التغيير وهذه التحالفات في تبديل لا أولويات هذه الأجسام وحسب، بل قلب سياساتها ومساراتها هي أسباب إهمالها لهذا النوع من الملفات. كما أنها، حالها في ذلك حال منظمات المجتمع المدني السوري، اكتفت بالعمل من الخارج بما يحمله ذلك من عيوب. ولعل أبرز مثال يوضح هذا القلب هو انخراطها في مسار “أستانا” للتفاوض مع النظام برعاية مشتركة روسية-إيرانية-تركية. هذا المسار جاء فعليًا على حساب مسار “جنيف” القائم على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي ينص على انتقال سياسي ويفترض تاليًا احتمال بناء برنامج عدالة انتقالية يمكن تصور معالجة الملفات الحقوقية عبره. وتاليًا فقد كان مسار “أستانا” إطارًا لتبادل الأسرى بين النظام وفصائل المعارضة المُسلحة والفصائل الإسلامية التي تُقاتله، وبذلك فقد خرج المعتقلون السياسيون والمخفيون قسرًا لدى النظام أو على يد الأطراف الأخرى من حسابات هذا المسار.

كما لم تلفت قوة الأمر الواقع المستجدة، قوات “قسد” ومن ورائها التحالف الدولي، التي ورثت السيطرة على مناطق سيطرة التنظيم السابقة أي اهتمام بملف المخفيين على يد تنظيم “داعش”. بل صبَّ الكثير من ممارسات “قسد”، موضوعيًا على الأقل، في مسار طمس أية آثار يمكن أن تساعد في الكشف من مصائر المخفيين والمعتقلين لدى “داعش”. ففي الرقة، سارعت هذه القوات إلى الاستيلاء على مقرات تنظيم “داعش” حال خروجه من المدينة، وبدأت سريعًا أعمال ترميم وصيانة ودهان لجدران السجون والمعتقلات، فيما كانت آلاف الوثاق الورقية ملقاة على الأرض يجمعها أفراد أو تتعرض للتلف والبلى. يُرجح أيضًا أن تجاهل قوات “قسد” لهذا الملف مرده أيضًا إلى حساسيته السياسية بالنسبة للصورة التي اُختلقتْ لها في الغرب بوصفها الطرف الوحيد الذي قاتل وقاوم تنظيم “داعش”، في حين أن ظهور السؤال عن مصير كل هذا العدد من المخفيين قسرًا سيُشير إلى واقع مختلف. يُضاف إلى ما سبق أن الخطاب السياسي ل”قسد” لا يُميز أجمالًا بين السكان المحليين وتنظيم “داعش”، ذلك أنه درج إلى استخدام مصطلح “البيئة الحاضنة” للإشارة إلى المجتمعات المحلية التي كانت محكومة من قبل “داعش”. كما أن تعامل قوات “قسد” اللاحق مع المقابر الجماعية، التي اُكتشفتْ في مناطق سيطرة “داعش” السابقة، يسير في اتجاه محو أية أثار أو دلائل تساعد في معرفة مصير المخفيين قسرًا، كما سنشرح في الفقرة التالية.

بالمقابل، فإن عددًا من أُسر المغيبين على يد تنظيم “داعش” يُبقي حتى اليوم على آمال بعودتهم أحياء. هذه الآمال وجدت تعزيزًا لها من أخبار غامضة كانت تظهر عند كل مفصل من مفاصل معركة طرد تنظيم “داعش”. فقد أُشيع خروج العشرات من المعتقلين لدى “داعش”، بينهم معتقلين على خلفية سياسية، عند استيلاء “قسد” على الطبقة؛ كما ظهرت أخبار شبيهة عند دخول قوات من التحالف الدولي و”قسد” إلى الرقة إذ تواترت “أنباء بأنَّ قسم من السجناء قد تمّ التحفظ عليهم، ونقلهم إلى أحد سجون مدينة عين العرب “كوباني” أو سجونها في الحسكة، بغرض التحقق من الشخصيَّات”[16]. ثم للمرة الثالثة بُني خبر بالفحوى ذاته أثناء حصار “الباغوز” في العام 2019 حيث نقلت وسائل إعلام، منها صحيفة التايمز البريطانية، خبر يفيد “أنَّ تنظيم الدولة يسعى إلى التوصل لاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، لتأمين ممر آمن لعناصره للخروج من المنطقة، ويستخدم في مفاوضاته ورقة الرهائن المختطفين لديه للتوصل للاتفاق، وأشارت إلى أنه من بين الرهائن “الأب باولو دالوليو” والصحفي البريطاني “جون كانتلي”، وممرضة تابعة للصليب الأحمر من نيوزيلندا”[17].

إلّا أن الأنباء هذه جميعًا بقيت في حيز القيل والقال، ولم يتضح من أية جهة رسمية ما إذا كان لهذه الأخبار أساس فعلي أم أنها نوع من الحرب النفسية ومحاولات كسب الوقت من قبل “داعش” أم، بالمقابل، محاولة من قبل بعض منتسبي “قسد” لابتزاز أهالي المغيبين، على ما يتكرر وتتعرض له كثير من أُسر المخفيين قسرًا لدى أطراف النزاع كافة.

  • المقابر الجماعية في الرقة: طبقة جديدة من التغييب عبر إجراءات ما بعد الصراع[18]

بين خريف 2017، لحظة انسحاب تنظيم “داعش” من الرقة وصيف 2019، لحظة انتهاء سيطرة التنظيم على أية بعقة على التراب السوري في معركة “الباغوز”، انخفضت توقعات أُسر المغيبين لدى “داعش”. فبينما كان ثمة آمال قبل انتهاء سيطرة التنظيم على التراب وانهيار سلطته المركزية في رؤيتهم أحياء، تحول اهتمام الأسر إلى ما يمكن أن تجلبه المقابر الجماعية المتخلفة في مناطق نفوذه السابقة من أخبار.

يذكر “دليل الأمم المتحدة لمنع ممارسات تنفيذ الإعدام خارج القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة، والتحقيق في تلك الممارسات”، يُعرف باسم “بروتوكول مينيسوتا المتعلق بالتحقيق في حالات الوفاة التي يُحتمل أن تكون غير مشروعة 2016 The Minnesota Protocol on The Investigation of Potentially Unlawful Death 2016 ، عددًا من المعايير التي تحدد أفضل الممارسات الممكنة في مجال نبش واستخراج الجثث من المقابر الجماعية. إذ يجب أن يتألف الفريق العامل على النبش والاستخراج من خبير في القضايا الجنائية وطبيب شرعي[19] ومصور فوتوغرافي وموثِّق وخبير آثار إضافة إلى العمال العاملين في الحفر والانتشال والنقل وإعادة الدفن؛ كما يجب أن يكون كل هؤلاء مؤهلين للتعامل مع خطوات العمل وحساسيته، مدركين لطبيعة العمل وموضوعيين ومستقلين عن أي تنظيم أو هيئة سياسية، وكذلك على وعي كامل بطبيعة المهمة والسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية والقانونية التي يعملون في إطارها. كما يتطلب هذا النوع من العمل توثيقًا دقيقًا ومستمر لكل خطوة من الخطوات بالإضافة إلى الحرص على ملاحظة كل يتعلق بالمقبرة وما يُحيط بها من عوامل التربة وطبيعة المكان من أجل استخلاص سليم للعينات. وهذه الأخيرة تتضمن عينات بشرية ومادية، غير بيولوجية، وتربة بالإضافة إلى التدقيق في الأنماط: تناثر الدماء، الحروق، تحليل الكسور وغيرها مما يساعد على تحديد سبب الوفاة.

كما أن أعمال النبش والاستخراج وتحديد الهويات والكشف عن المصير تجري عادة في مرحلة ما بعد نهاية الصراع[20]، إذ تتطلب استقرارًا سياسيًا وشرعية قانونية تجعل من نتائج عمل الفرق العاملة على المقابر الجماعية مقبولة من قبل كل الأطراف المعنية؛ أي أن هذه الإجراءات تتطلب انتقالًا سياسيًا وإطارًا قانونيًا، قد يكون في سياق برنامج للعدالة الانتقالية، كي تُصبح نتائجه مُلزمة قانونًا للمعنيين حتى لو لم تكن مقبولة منهم. ولذلك يُستحسن أيضًا أن يشمل الفريق العامل ممثلًا عن أهالي المخفيين قسرًا أو المفقودين عامة أو عن الهيئة الممثلة لهم في حال وجودها

أما مجريات الواقع، وحال عودة سكان الرقة إلى المدينة بعد أسابيع من انتهاء القتال فيها، فقد بدأ أفراد من “فوج الإطفاء” في رفع الجثث المتناثرة في الشوارع وتحت ركام البيوت المباني المُدمرة بصورة تطوعية. تطور عمل هؤلاء الأفراد بعد تحول المجلس المحلي المعين من جانب “قسد” للإشراف على عمل الفريق. وبدأت منظمات دولية محلية عاملة في المنطقة بجلب التمويل لاستمرار عمل الفريق[21]. فزاد عدد أفرده، أصبح حوالي 40 شخصًا مؤخرًا، وأصبح اسمه “فريق الاستجابة الأولية” ثم “فريق الطب الشرعي”، وضُم إليه طبيب عام، ثم طبيب شرعي لاحقًا، وهؤلاء كان يلازمهم دائمًا عنصر من مخابرات “قسد”. لكن عمل هذا الفريق افتقر إلى المهنية في عمليات نبش المقابر واستخراج الجثث وأخذ العينات، مئات الجُثث في مقبرة “ملعب ثانوية الرشيد” لم تُؤخذ منها قط عينات، تاليًا، لم يوفق في تحديد عن هويات معظم الجُثث المدفونة في هذه المقابر.

فتح “فريق الاستجابة الأولية” هذا حوالي 30 قبرًا ومقبرة جماعية بين العام 2018 ونهاية العام 2020، واستخرج منها 6072 جثة. أكبر هذه المقابر الجماعية هي مقبرة “البانوراما” ومقبرة “معسكر الطلائع” و”مقبرة الفخيخة أو مركز البحوث العلمية الزراعية” و”مقبرة ملعب ثانوية الرشيد. بلغ عدد الجُثث التي عُرفت هويات أصحابها وتاليًا سُلمتْ إلى ذوي القتلى لدفنها 629 جثة فقط. بلغ عدد الجُثث التي عُرفت هويات أصحابها وقام فريق الاستجابة الأولية بدفنها بناءً على طلب ذوي المقتول 35 جثة فقط. تاليًا بلغ عدد الجُثث المُنتشلة والتي لم تُعرف هويات أصحابها، إما لعدم معرفة أهل القتيل بمكان مقتله أو لعدم توفر إثباتات أو بيانات تساعد على معرفة هوية الجثة، 5404 جثة. إذن، فإن نسبة تزيد عن 88% من الجُثث المُنتشلة بقيت مجهولة الهوية.

بطبيعة الحال، فإن جزءًا من عبثية عمل هذا الفريق ناتج عن تعامله بطريقة غير احترافية مع مقابر تشكَّلتْ أثناء حصار المدينة حيث عجز السكان وعجز السكان عن دفن قتلاهم في المقابر الرسمية، كما عن خليط الجُثث الذي تحويه هذه المقابر، إذ يُخمن العاملون في “فريق الاستجابة الأولية” في الرقة إلى أن ظاهر الجُثث المستخرجة، الثياب والأوراق والمقتنيات وهيئة الجسد، من هذه المقابر يُشير إلى أنها:

(آ)- جُثث أشخاص مدنيين كان قتلهم “التحالف الدولي” المناهض لتنظيم “داعش” بالقصف الجوي والمدفعي خلال فترة حصار المدينة والأيام الأخيرة من معركة السيطرة عليها.

(ب)- جُثث أشخاص مدنيين قتلتهم ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية” بالقصف المدفعي خلال الأيام الأخيرة من حصار المدينة أو قنصًا أثناء خروجهم من المدينة.

(ج)- جثث أشخاص كان قتلهم تنظيم “داعش” قنصًا بينما كانوا يسلكون معابر خصصها “التحالف الدولي” و”قسد” لفرارهم من المدينة في الأيام الأخيرة من المعركة على الرقة في خريف العام 2017.

(د)- جُثث عناصر تنظيم “داعش” نفسه ممَنْ قُتلوا أثناء القتال.

(ه)- احتمال وجود جُثث لمعتقلين عند “داعش” قُتلوا تحت التعذيب أو أُعدموا أو قُتلوا بقصف مقرات ومعتقلات “داعش” في المدينة.

عمليًا، تُضيف الممارسات غير المهنية وغير الشرعية من قبل “فريق الاستجابة الأولية”، في الرقة على الأقل، طبقة إضافية من التعتيم على مصائر من اُخفوا واعتقلوا في الرقة خلال سيطرة تنظيم “داعش” عليها، كما على مصائر ما لا يقل عن1600 مدني قُتلوا أثناء الأعمال العسكرية لطرد التنظيم منها.

  • هل من سياق سياسي مُفسِّر لإجراءات ما بعد الصراع؟

في أواخر العام 2015 طرحت مؤسسة رَندRand  الأمريكية ما اسمته “خطة سلام من أجل سورية”[22]. الخطة بُنيت وقتها على تصور محوري هو “محاربة الإرهاب”، أي دحر تنظيم “داعش” وما كان يُعرف وقتها بـ”جبهة النصرة” والتوسع على حسابهما. تنطلق خطة المؤسسة المقربة من وزارة الدفاع الأمريكية من أن قوى الأمر الواقع القائمة وقتها-النظام والمعارضة وقوات حماية الشعب الكردية، التي غَيَّرَ الأمريكيون في تلك المرحلة اسمها إلى قوات سورية الديمقراطية- هي الأطراف المخولة، برعاية أطراف إقليمية ودولية، بصناعة السلام في سورية والقضاء على الإرهاب وبناء دولة سورية جديدة ونظام سياسي جديد في سورية.

لكن الخطة، في الآن ذاته، تقر ضمنًا بحق هذه الأطراف بإن تنحو نحوًا مغايرًا متى أصبح لديها احتمالات تُشير إلى أن مدخلات العملية السياسية تختلف عما تريده هي منها. وهذا يعني عمليًا أن هذه الأطراف مُلزمة بالمشاركة في محاربة الإرهاب-داعش والنصرة- لكن يمكنها ألّا تنخرط في عملية بناء سورية جديدة وتشكيل نظام سياسي جديد لها، إذ يمكن أن تكون لها خياراتها الخاصة.

بالفعل، فقد اكتملت الخطوط العامة لهذا التصور قرب نهاية العام 2019 باستثناء وضع درعا التي أُعيدت إلى سيطرة النظام، فبقيت ثلاث مناطق بدلًا من أربع اقترحتها الخطة في البداية. كما أن توسع فصائل “الجيش الوطني”، الذي حل محل “الجيش الحر”، على حساب تنظيم “داعش” بقي محدودًا، كما استمر على تعايش قلق مع “هيئة تحرير الشام”، “جبهة النصرة” سابقًا، نظرًا لتداخل مناطق سيطرتهما في شمال وشمال غرب البلاد. في المحصلة انتهت تركة “داعش” الترابية كالآتي:

آ-النظام السوري في أجزاء من ريف حلب الشمالي والشرقي والجنوبي كما في ريف الرقة الجنوبي والجنوبي الشرقي وريف دير الزور الشرقي والغربي من جانب البادية (الشامية) بالإضافة إلى مناطق واسعة من البادية السورية التابعة إداريًا لمحافظات حمص وحماة والرقة ودير الزور.

  • قوات سورية الديمقراطية في محافظات الجزيرة السورية الثلاث، الرقة ودير الزور والحسكة، مدعومة من التحالف الدولي المناهض لداعش.
  • فصائل “الجيش الوطني” في الأجزاء الشمالية من محافظات إدلب وحلب والرقة مدعومة من تركيا.

إذن، إذا دُفعت الأطراف الثلاثة القائمة اليوم- النظام وما يمكن أن يكون حاصل تجمع فصائل “الجيش الوطني” والجماعات الجهادية- لا يزال لجبهة النصرة وضع خاص- وقوات سورية الديمقراطية- لتدخل في عملية سياسية لتحقيق السلام في سورية، إن قُيض للبلاد أن تعود لتُشكل كيانًا سياسيًا واحدًا، فستكون هذه الأطراف الثلاثة مسؤولة عن الإخفاء القسري لما مجموعه 93639 شخصًا[23]. وهذا العدد يُشكِّل ما نسبته 93% من عدد المخفيين قسرًا في سورية؛ بعبارة أخرى، كل المخفيين قسرًا في سورية ما عدا مَنْ أخفاهم قسرًا تنظيم داعش: 8648 شخصًا.  تاليًا، هل يمكن تصور أن تنخرط الأطراف المسؤولة عن الشطر الأكبر من الانتهاكات، بما فيها الإخفاء القسري، في مسار لعدالة انتقالية يمكن أن يُفضي إلى محاسبة المنتهكين؟

من منظور مقارن، تُظهر تجارب مجتمعات أخرى خرجت من صراعات داخلية مماثلة خلال العقود الأخيرة أن مسارًا للعدالة الانتقالية لابد أن يَسبقه تحقق انتقال سياسي جدي. أبرز مثال عن حالة من هذا النوع هي دولة جنوب أفريقيا. بينما بُنيت حلول سياسية توافقية في صراعات أخرى، مصحوبة بإجراءات وترتيبات مختلفة، على دفن الملفات الحقوقية والقانونية تجنبًا للمسائلة والمحاسبة، مثل لبنان ونيبال وقبرص، رغم اختلاف السياقات من بلد لآخر.

ربطًا بما سبق، يبدو مستقبل الملفات الإنسانية والحقوقية في سورية، بما فيها ملف المخفيين قسرًا لدى كل الأطراف ومن ضمنهم المخفيين قسرًا على يد تنظيم “داعش”، من المعالجة والحل وبما يتوافق مع مبدأي الحق في المعرفة والمسائلة والمحاسبة المرتبطين والمفضيين إلى العدالة في أدنى حظوظها. إذ يقدم النظر في ملف المخفيين على يد “داعش” بوجه خاص فرصةً فريدة وملموسة لقراءة الخطوط العامة لمستقبل باقي الملفات عبر ما يوفره عامل تقدم الزمن في التعامل مع مصير المخفيين والتعامل مع المقابر الجماعية. عمليًا، لم يقف دور “قسد” وما ومَنْ تمثله من قوى خارجية متدخلة عبرها في النزاع السوري في هذا السياق عند حد تجاهل الملف أو العجز عن تناوله بمنهجية سليمة، هذا إذا افترضنا حسن النوايا، بل يصل لأن يتكامل دورها مع دور تنظيم “داعش” في استدامة طمس مصير المخفيين قسرًا. وهي بذلك تترجم لا موازين القوة القائمة اليوم وحسب، بل تُشير سلفًا أيضًا إلى رغبتها في صورة الواقع السوري المقبل.

ثالثًا: خط الدفاع الأخير

يقول الخبير في القانون الدولي جيريمي ساركن[24]Jeremy Sarkin  ” المشكلة الحقيقة في العالم في ما يخص انتهاكات حقوق الإنسان ليست في أن العالم لا يمتلك الأدوات أو المفاهيم لاتخاذ الخطوات الضرورية. المشكلة الحقيقة هي انعدام الإرادة لفعل لاتخاذ الخطوات الضرورية[25]“. والأرجح أن تكون الملفات الحقوقية في سورية آخر ما يمتحن به السوريون إرادة الدول المتدخلة لا في ما يخص مجريات الصراع الراهن فحسب، بل في ما يخص شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي وعلاقته بالمجتمع لاحقًا.

فإذ تحلل الحراك الشعبي الذي انطلق في سورية بالعام 2011 إلى عدد من القضايا والملفات والمسارات الجزئية: السياسية والحقوقية والاجتماعية والإنسانية والقانونية، فإن هذا التجزؤ خلق أيضًا حالة من اللايقين تُحيط باحتمالات الحل السياسي: شكله ونتائجه وأدوار الفاعلين المحليين فيه، وتاليًا باحتمالات حل الملفات الحقوقية التي تشكَّلت على مدار الصراع.

لكن لا تزال ثمة فرصة أخيرة وقد تكون وحيدة لإبقاء الملفات الحقوقية، الاعتقال والتعذيب والقتل تحت التعذيب والإخفاء القسري تحديدًا، على قيد الأمل في الحل والمعالجة وفي تقديمها إلى صدارة الملفات تناولًا في سورية  بصرف النظر عن شكل الواقع السياسي لاحقًا. فقد شهدت السنوات الأخيرة، بعد العام 2017 تحديدًا، ظهور عدد من روابط الضحايا وأسرهم وروابط الناجين والناجيات من المعتقلات والتعذيب. ولا تزال سيرورة تشكل المزيد من الروابط قائمة بالنظر لتعدد الأطراف المنتهكة وتعدد أنواع الانتهاك مضافة إلى استحالة بناء منظمات أو مؤسسات جامعة نظرًا لاستمرار الصراع، حتى مع تقلص تكرار وحجم الأعمال القتالية في سورية.

ومنذ العام 2019، بدأت خمس من هذه الروابط، “رابطة عائلات قيصر” و”حملة عائلات من أجل الحرية” و”رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” و”مبادرة تعافي” و”تحالف أُسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم “داعش”” في توحيد مبادئ عملها ورؤاها في ما يخص الموضوعات التي تعمل عليها كل رابطة منها منفردة. وهذه جميعًا تشكَّلت، كل على حدة، ردًا على تراجع الاهتمام بالملفات الحقوقية من المعارضة الرسمية ودور الفاعلين غير الدولتيين على الساحة السورية أثناء الصراع وربما بعده، الأمر الذي يضيف المزيد من التعقيد على فرص المعالجة والحل.

أثمر العمل المشترك بين الروابط الخمس هذه “ميثاق الحقيقة والعدالة”. وهو ورقة تتضمن رؤية الضحايا والناجين وأسرهم إلى الملفات الحقوقية ذات الصلة. وتُكثف هذه الفقرة من “الميثاق” طبيعة العمل الذي انتدبت هذه الروابط نفسها له: “ينطلق الميثاق من المقاربة التي تركز على الضحايا في أي مسار أو عمل حقوقي أو سياسي أو قضائي يتناول حقوقهم/ ـهن أو يؤثر عليها. تنشأ هذه المقاربة على أساس الأهمية المركزية لصوت الضحايا واحتياجاتهم/ـهن الصريحة كما يحددونها بأنفسهم . على المقاربة أن تركز على تلبية رؤية وتطلعات واحتياجات الضحايا من خلال إتاحة المجال لدورهم/ ـهن المركزي في مسارات العدالة الانتقالية والمحاسبة. كما يجب أن تتحدى الضغوط والأجندة النخبوية والخارجية التي قد تتعارض مع رؤية الضحايا فيما يخص مسارات العدالة والمحاسبة وعمليات التفاوض والانتقال السياسي”[26].

مفردات هذه الرؤية تتكثف في فهمها لجوانب من تحقيق العدالة بوصفها جوانب مُلِّحة تستلزم إجراءات عدالة قصيرة الأجل، مثل وقف الانتهاكات، وسيرورات بعيدة الأجل، مثل آليات منع التكرار في المستقبل. وقد صاغ ميثاق الحقيقة والعدالة رؤية الضحايا والعائلات إلى سيرورة تحقيق العدالة هذه في 6 مطالب محددة:

  • الإفراج الفوري عن المعتقلين/ات وكشف مصير المخفيين/ات والمغيبين/ات قسرًا.
  • الوقف الفوري للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والجرائم الجنسية.
  • تسليم رفات المتوفين نتيجة لظروف الإخفاء القسري والاعتقال.
  • إلغاء المحاكم الميدانية والاستثنائية.
  • توفير محاكم مدنية مستقلة عادلة تراعي المعايير الدولية.
  • التعويض وجبر الضرر.
  • الاعتراف بالحقيقة وتخليد الذكرى.
  • التغيير في المؤسسات الأمنية والقضائية وممارساتها.

كما تدفع رؤية روابط الضحايا وأسرهم باتجاه محاسبة المنتهكين عبر تشكيل “آلية محاسبة عادلة بضمانات دولية تشمل جميع الضالعين بالانتهاكات في سورية دون أي ضمانة لحصانات دبلوماسية أو سياسية”[27]؛ وإحالة ملف سورية إلى محكمة الجنايات الدولية أو إنشاء محكمة دولية خاصة في سورية، إضافة إلى دعم الآلية الدولية المحايدة والمستقلة IIIM، على أن يتم ذلك في إطار “عدالة انتقالية لضمان استدامة السلام وتفادي الانجرار إلى عمليات الانتقام”[28] في المستقبل.

تشمل رؤية الضحايا أيضًا توصيات تتعلق بمسارات السلام واستدامته ومستقبل سورية. أول هذه التوصيات في ما يخص التفاوض وتبادل الأسرى تلحظ ضرورة ألّا “يكون الإفراج عن المعتقلين/ات والكشف عن مصير المختفين قسرا ً مرهونا بالمفاوضات أو اتفاقيات ً التبادل بين أطراف النزاع وضامنيها، أو التعامل مع المعتقلين/ات والمخفيين/ات قسرا كأسرى حرب”. فيما تتعلق الثانية بالدستور وآليات التطبيق حيث ترى أن دستور البلاد يجب أن “يتضمن مكونات أساسية ً وبنودًا تفصيلية تضمن حقوق المواطنين/ات وكرامتهم/ـهن بشكل كامل، وتجرم الإخفاء القسري والتعذيب ّ والاعتقال والمحاكمة خارج إطار القضاء، ويُعرِّف بدقة الأجهزة الأمنية ويحدد صلاحياتها والّا يحيل هذه التفاصيل إلى القوانين”. وتركز التوصية الثالثة على ضرورة ربط إعادة الإعمار “بكشف مصير المختفين/ات قسرًا وتسليم رفات المتوفين/ات، ولا يمكن بحال أن ٍ تنطلق هذه العملية أو ما يسبقها من عمليات تعاف مبكر على الأرض، والتي يُحتجز ويُغيب ويُعذب تحتها ً الآلاف من المواطنين السوريين، ويوارى آلاف غيرهم/هن في مقابر جماعية تحتها أيضًا”. وتختم الروابط المُنشئة للميثاق توصياتها بضرورة اتخاذ إجراءات بناء الثقة تمهيدًا لعودة اللاجئين والنازحين عبر “إطلاق سراح المعتقلين/ات، والكشف عن مصير المفقودين/ات، ووقف التعذيب، وإلغاء المحاكم الاستثنائية والاعتقال خارج إطار القضاء في سورية لطمأنتهم بأنهم لن يواجهوا نفس الانتهاكات التي أجبرتهم على المغادرة عند عودتهم”[29].

لكن توفر وثيقة تتضمن رؤية شاملة مثل “ميثاق الحقيقة والعدالة” لا يكفي وحده لخلق مسار من أجل معالجة الملفات الحقوقية المُضمنه فيه، فكان لابد من البحث عن قوة دفع سياسي وقانوني تضع “الميثاق” على سكة التحقيق. ولهذه الغاية كلفت روابط “ميثاق الحقيقة والعدالة السيد جيريمي ساركن بإجراء دراسة تنظر في أفضل السبل الممكنة لخلق رافعة تحول “الميثاق” إلى آلية لكشف مصائر المعتقلين والمخفيين قسرًا في سورية. أُطلقتْ هذه الدراسة في شهر حزيران من العام 2021 تحت عنوان “إنهم بشر وليسوا أرقامًا: في وجوب إقامة آلية دولية للتعامل مع أزمة المعتقلين والمخفيين قسرًا في سورية”. وتخلص هذه الدراسة ضرورة “إنشاء هيئة تجمع المنظمات والمؤسسات ذات الصلات بملفات الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري إلى روابط الضحايا وأُسر الضحايا في سورية ضمن إطار عمل واحد من أجل العمل على الإفراج عن المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين، والبحث والعثور على رفات من فارقوا الحياة. هذه الآلية، حسب رؤية “مجموعة الميثاق” لها، تحتاج إلى تفاهم سياسي دولي وإطار قانوني يحكم شرعيتها، قد يكون قرارًا من مجلس الأمن الدولي أو من الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما تحتاج إلى مؤسسات مختصة ومؤهلة وذات مصداقية قادرة على العمل على الأرض”[30].

“ميثاق الحقيقة والعدالة” ثم صياغة مطلب الآلية أعادا الاعتبار لملفات الاعتقال والإخفاء القسري في سورية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على الأقل، وهذه طلبت مؤخرًا من الأمين العام للأمم المتحدة انجاز دراسة بهذا الخصوص. وبناءً على هذه الدراسة، التي تقوم بها حاليًا مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يُرجح أن يصدر قرارٌ خلال صيف العام 2022 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ينص على إنشاء آلية يؤمل أن تساعد في تحويل هذا الملفات المؤلمة إلى قضية كبيرة لكل السوريين، قضية يعمل حلها عمل جسر نحو مستقبل أكثر أمانًا واستقرارًا لعموم السوريين. إن الدور الموصوف أعلاه للضحايا والعائلات والناجين خلال الفترة الأخيرة يمكن أن يفتح مسارًا عجزت عنه باقي التشكيلات السياسية والمدنية السورية لأنه، إذ يرتكز على الحق الشخصي والتحرر من الاعتبارت السياسية المتغيرة والمتضاربة يستطيع أن يقاوم أجندات التسوية والتمييع وتقديم الأولويات الذي يُرجح أن يواجههم في الفترة المقبلة.

[1] – سنستخدم عبارة “إخفاء قسري” بدلًا من المصطلح الشائع “اختفاء قسري”، الدارج في معظم الأدبيات ذات الصلة، اتساقًا مع منطق اللغة العربية في كل موضع من هذا البحث. فما دامت علة اختفاء الشخص خارجه، أي، إذا لم يختف بإرادته فلأصح أن نقول “مخفي”.

[2] – لم توقع سورية على هذه الاتفاقية حتى اليوم.

[3] – مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان-اللجنة المعنية بحالات الإخفاء القسري.

مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان | الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (ohchr.org)

[4] – المصدر السابق.

[5] – SARKIN, Jeremy Julian, The Conflict in Syria and the Failure of International Law to Protect People Globally: Mass Atrocities, Enforced Disappearances and Arbitrary Detentions, Routledge, London and New York, 2022, p.82.

[6] – Editorial , la magazine semestriel de la fédération euro-méditerranéenne contre les disparitions forcées, devoir de vérité, septembre 2018, p. 5.

[7] – الأمم المتحدة-مجلس الأمن  الأمم المتحدة – مجلس الأمن | (un.org)

القرارات التي اعتمدها مجلس الأمن في عام 2019 | الأمم المتحدة – مجلس الأمن (un.org)

[8] – SARKIN, Ibid, p.73.

[9] – العربية نت.

توقف الأمم المتحدة عن تحديث إحصائيات القتلى بسوريا (alarabiya.net)

[10] – يذكر السيد مصطفي سليمان في شهادة له أمام كاتب هذه المادة أن النظام السوري أطلق 73 صاروخ سكود على مدينة الرقة في هذه الفترة. ويُشير أن معظم هذه الصواريخ تحطم أو سقط قبل أن تصل أهدافه، كما يُرجح أن المدينة كانت ستُدمر بالكامل لو أن هذه الصواريخ ضربت أهدافها داخل المدينة.

[11] – ALHAJ SALEH, Khalil, Le phénomène Da’ech dans les écrits des révolutionnaires de Raqqa, non publié, version PDF, EHESS-ENS, 2019, p. 59-60.

[12] – تحالف أُسر المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام-داعش: مسار، مجزرة الشعيطات، 15 آب 2021.

مجزرة الشعيطات – Massar (massarfamilies.com)

[13] – يُشير هذا الاختصار بالأحرف الأولى إلى “قوات سورية الديمقراطية”. وهذه في أصلها هي “وحدات حماية الشعب” الكردية، ويُرجح إن هذه الأخيرة كانت أُنشئت في أعقاب أحداث مدينة القامشلي في العام 2004. إلّا أنها بقيت تنظيمًا سريًا حتى الإعلان عنها في العام 2012 بالتزامن مع انسحاب قوات النظام السوري من القرى والبلدات ذات الكثافة الكردية في سورية، مثل عين العرب وعامودا والقامشلي وعفرين. ثم اقترح الأمريكيون الاسم الجديد “قوات سورية الديمقراطية” لدى اعتماد هذه الوحدات لمقاتلة تنظيم “داعش” كما دُفعت لضم مجموعات مقاتلة عربية ، بعضها معارض وبعضها موالي، قبيل التوجه إلى القتال خارج المناطق العربية في سورية، في تل أبيض ولاحقًا الرقة ودير الزور.

[14]– منظمة العفو الدولية “أمنستي”، حرب الأبادة: خسائر فادحة في صفوف المدنيين في الرقة بسورية، 2018، ص 50.

سوريا: حرب الإبادة: خسائر فادحة في صفوف المدنيين في مدينة الرقَّة بسوريا – منظمة العفو الدولية (amnesty.org)

[15] – منظمة العفو الدولية، مصدر سابق.

[16] – الرقة تُذبح بصمت، قسد تعترف ببعض المعتقلين لدى “داعش” سابقًا، 24 نيسان/أبريل 2018.

الرقة تذبح بصمت قسد تعترف ببعض المعتقلين لدى داعش سابقاً (raqqa-sl.com)

[17] – حلب اليوم، منظمة دولية: الأب باولو على قيد الحياة وتنظيم الدولة يفاوض لإطلاق سراحه، 4 آذار/مارس 2019.

منظمة دولية: الأب باولو على قيد الحياة وتنظيم الدولة يفاوض لإطلاق سراحه (halabtodaytv.net)

[18] – تشمل إجراءات ما بعد الصراع ميادين عمل عامة قد تتباين بحسب مواضيع المُسببة للصراع وطبيعة أطراف الصراع، لكنها إجمالًا: التنمية وسيادة القانون وحفظ الأمن والعدالة والمواطنة.

[19] – المفوضية السامية لحقوق الإنسان، بروتوكول مينيسوتا المتعلق بالتحقيق في حالات الوفاة التي يُحتمل أن تكون غير مشروعة 2016، نيويورك وجنيف 2017.

بروتوكول مينيسوتا المتعلّق بالتحقيق في حالات الوفاة التي يحتم أن تكون غير مشروعة (2016): دليل الأمم المتّحدة لمنع ممارسات تنفيذ عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة، والتحقيق في تلك الممارسات | مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (ohchr.org)

[20] – توصي الجهات الدولية والفرق المهنية والمحترفة العاملة على التحقيق في شأن المقابر الجماعية ونبشها وتحديد هويات المدفونين فيها برسم حدود هذه المقابر أولًا وحمايتها من العبث إلى حين توفر البيئات السياسية والاجتماعية والقانونية والمناهج والأدوات الضرورية للعمل عليها.

[21] – درجت المنظمات الممولة لفريق الاستجابة الأولية، وهي بدورها ممولة أمريكيًا بالدرجة الأولى، على تكرار عبارة “أماكن حيوية” في الإشارة إلى مواقع المقابر الجماعية في الرقة وفي معرض تبريرها لسرعة نبش وانتشال الجثث رغم عدم مهنية واستقلالية واكتمال فريق العمل على المقابر. والحقيقة أن أيًا من هذه المواقع، وخاصة مواقع المقابر الجماعية الكبرى  ليس حيويًا بأي معنىً من المعاني. بل الأرجح أن عدم أهمية هذه المواقع هو ما شجع في الأصل على تحويلها  إلى مقابر رغم قلة أو انعدام الخيارات وقتها. فمقبرة “معسكر الطلائع” هي أرض خالية والمعسكر نفسه، أملاك دولة، لم تعد له وظيفه؛ والأمر ينطبق على مقبرة “الفخيخة أو مركز البحوث العلمية الزراعية” حيث تشكلت المقبرة في أرض تابعة للمركز، كما ينطبق على مقبرة “ملعب ثانوية الرشيد”، وهو ملعب ترابي غير مستخدم من عشرين عامًا تقريبًا.

[22] –  James Dobbins, Philip Gordon and Jeffery Martini, A Peace Pan for Syria, Rand Corporation, December 2015.

A Peace Plan for Syria | RAND

 وقد ترجمت تحت عنوان “خطة سلام من أجل سورية”، ترجمة خليل الحاج صالح. ونشرت في عدد من المواقع السورية. تجدونها هنا:

 خطّة سلام من أجل سورية: مؤسّسة رَند: جيمس دوبنس وفيليب غوردون وجيفري مارتيني | حزب الشعب الديمقراطي السوري (syria-sdpp.org)

وهنا:

 خطة مؤسسة راند الأميركية للحل في سورية – مركز حرمون للدراسات المعاصرة (harmoon.org)

[23] – انظر في فقرة “المنتهكون في السياق السوري”.

[24] – أستاذ في القانون الدولي والقانون المُقارن من جنوب أفريقيا. ترأس لجنة حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا بين عامي 1994 و1998، ثم عمل رئيسًا مُقررًا للفريق العامل على الاختفاء القسري أو غير الطوعي التابع للأمم المتحدة عامي 2002 و2003.

[25]– Sarkin, Ibid, p. 38.

[26] – ميثاق الحقيقة والعدالة، موقع مسار، تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية-داعش. شباط/فبراير 2021.

ميثاق-الحقيقة-والعدالة.pdf (massarfamilies.com)

[27] – ميثاق الحقيقة والعدالة، مصدر سابق.

[28] – ميثاق الحقيقة والعدالة، مصدر سابق.

[29] – ميثاق الحقيقة والعدالة، مصدر سابق.

[30] – إطلاق دراسة حول آلية دولية لمعالجة قضايا المعتقلين والمخفيين قسرًا في سورية، موقع مسار، 23 حزيران/يونيو 2021.

إطلاق دراسة حول ألية دولية لمعالجة قضايا المعتقلين والمخفيين في سورية – Massar (massarfamilies.com)