يُسهم فتح المقابر الجماعية في كشف مصائر الأفراد المُتوفين الذين سقطوا ضحايا النزاعات والحروب والقتل تحت التعذيب والقتل خارج نطاق القانون ذلك أنه يُساعد في تحديد هوياتهم ومواقع دفن رُفاتهم ومعرفة أسباب وفاتهم، وبهذا يُعين أُسرهم على التوصل إلى خاتمة لانتظاراتها. ذلك أن تسلم رفاة المتوفى وإعادة دفنه في قبر خاص بمعرفة أسرته، وبأسلوب يتناسب مع ثقافة المجتمع ويليق بكرامته وكرامة أسرته، يُتيح لأهل المتوفى فرصة الحداد وتقبل العزاء والانتهاء من حالة الترقب والغموض المؤلمين التي لفت مصيره في مرحلة ما قبل التحقق من وفاته. كما أن تحديد هوية المتوفى وإعادة دفنه وفق الأطر القانونية، استصدار شهادة وفاة، المعمول بها في المجتمع يُساعد عائلات المفقودين المتوفين في استئناف حيواتهم والتصرف بمقتضى الحال ومعالجة الآثار الاجتماعية والقانونية الناتجة عن الوفاة، مثل حضانة الأطفال والميراث والزواج وغيرها من شؤون الحياة.

تُشير إحصاءات مُعتمدة من قبل معظم المنظمات والمؤسسات المحلية والدولية إلى أن 130.000، مئة وثلاثون ألف، سوري على الأقل  يُعتبرون في عداد المفقودين بفعل مجريات الصراع بعد العام 2011. بموازاة ذلك، كُشفت آلاف القبور الفردية والمقابر الجماعية في كل بقعة من سورية وفي كل مناطق نفوذ قوى الأمر الواقع الحالية؛ وهذه القبور والمقابر تضم جُثث آلاف الأشخاص الذين اقُتلوا بعد أن فُقدوا على يد أحد أطراف النزاع.

واقع الحال اليوم، يُبين أن التراب والسيادة السوريين موزَّعيَن بين ثلاثة مناطق نفوذ دولي وإقليمي بالتفاهم والتنسيق مع  قوى الأمر الواقع المحلية؛ وأن 70% من الأراضي السورية شهد تبدلات متلاحقة لقوى السيطرة، وأن تبدلات أخرى في السيطرة لا تزال واردة؛ وأن كل قوى السيطرة هذه، دون استثناء، انتهكت حقوق السكان عبر القتل أو القتل تحت التعذيب أو القتل بإجراءات قضائية موجزة أو الخطف أو الإخفاء القسري أو الاعتقال. وما يزيد الحال تعقيدًا أن دولًا مُتدخلة ذات نفوذ توفر لوكلائها المحليين الرعاية  والتغطية السياسيين إضافة إلى الدعم العسكري واللوجستي. كما أن بعضًا هذه الدول المُتدخلة شارك في أعمال قتالية مباشرة زادت حصيلة الضحايا من القتلى والمفقودين. وهذا وَسّعَ دائرة المنتهكين ووفر حماية إضافية لقوى الأمر الواقع وهامش أوسع أمامها للمناورة والتملص من مسؤولياتها.

ولذلك فإن المعالجة العلمية الحصيفة والدقيقة لملف المقابر الجماعية في سورية شرط أساسي لازم، وإن ليس كافيًا، للتعامل مع ملف المفقودين وعامل رئيس في كشف مصير ومكان مَنْ بقي منهم مجهول المصير حتى الآن. كما أن التعامل المهني القانوني مع ملف المقابر الجماعية يساعد السوريين في إعادة تجاوز الماضي والتطلع إلى الأمام وإعادة رتق نسيجهم الاجتماعي المُفتت وبناء سلام مستدام.

في هذا الإطار يجب على أي جهة تضطلع بمهمة استخراج الرفات البشرية من المقابر الجماعية في أي مكان في سورية أن تراعي مجموعة من المبادئ والإجراءات التي تضمن كشف مصائر المفقودين والمخفيين قسرًا الذين يُحتمل أنهم دُفنوا في هذه المقابر، وتضمن احترام كرامة المتوفي، كما تضمن سلامة الإجراءات القانونية والقضائية اللاحقة لعمليات الفتح والاستخراج.

تابع “تحالف أُسر الأشخاص المُختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” خلال الأعوام السابقة أعمال نبش[1] فعلية جرت في عدد من المناطق في سورية، وبموازاة ذلك سعى إلى الحصول على عدد من الاستشارات والخبرات الدولية في ما يتعلق بأفضل الممارسات المُعتمدة عالميًا وما تستخدمه من سبل وأدوات ومناهج علمية ومهنية وقانونية في فتح المقابر الجماعية واستخراج الرفاة وإعادة دفنها بهدف كشف المصير وتحديد مسؤوليات الجُناة والمُنتهكين. وقد وضع هذه الورقة إسهامًا منه في رفع مستوى الوعي بأهمية التعامل المهني والقانوني مع المقابر الجماعية بوصفه عامل أساسي يُساعد في كشف مصير المفقودين والمخفيين قسرًا. والورقة بُنيت بالاستناد إلى خبرات حية طورتها فرق محلية ودولية عملت على فتح المقابر في عدد من دول العالم، مثل الأرجنتين وغواتيمالا والبوسنة، وكذلك على “برتوكول مينيسوتا” المُعتمد من جانب الأمم المتحدة في ما يخص التعامل مع المقابر الجماعية.

 

أولًا: الإطار القانوني والسياسي

يُستحسن أن يجري العمل على المقابر الجماعية في ظل أوضاع سياسية وأمنية وقانونية مستقرة أو ضمن إطار برنامج مُتوافق عليه للعدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع. هذه القاعدة العامة توفر البيئة السياسية والأمنية والقانونية والاجتماعية الملائمة لعمل فرق فتح المقابر واستخراج الجُثث وإعادة دفنها بعد تحديد هويات المتوفين المدفونين فيها. كما أن أعمال أخذ العينات وتحديد هويات الرفات يحتاجان إطار سياسي قانوني مستقر وشرعي من أجل ضمان شرعية ونزاهة وحياد الإجراءات، ومن أجل قبول نتائجها النهائية من جانب حاملي الحق الشخصي، كما من أجل تحديد المسؤوليات وبناء سردية توافقية. وهذا يستلزم وجود نظام سياسي شرعي أو توافق سياسي في الحد الأدنى، كما يتطلب وجود جهاز تنفيذي مُحايد ومنظومة قضائية مهنية وعادلة ومستقلة ونزيهة ومحايدة تجاه الأطراف الأهلية والسياسية جميعًا، كما يستلزم دورًا مركزيًا للمجتمع، مُمثلًا بالأفراد والأُسر الحاملة للحق الشخصي، في مراقبة وضمان حسن سير أعمال الفتح والاستخراج وإعادة الدفن اللائق بعد تحديد هويات الضحايا ومسؤوليات الجُناة.

 

ثانيًا: فريق العمل: الاختصاصات العلمية والموارد البشرية

من الناحية المهنية، يجب أن يكون الفريق العامل في فتح وتحليل المقابر الجماعية واستخراج الرفات منها مدربًا على التعامل مع الجثث المدفونة كما على الطرق المثلى للاستخراج دون إحداث أية أضرار محتملة بالرفات أثناء الحفر والاستخراج. ومن الناحية السياسية والقانونية، يجب أن يكون والقائمين عليه مدركين لإطار الصراع ودينامياته وأطرافه وزمنه. ويجب أن يشمل الفريق العامل على فتح المقابر وتحليلها على عدد من الاختصاصات العلمية تتقاطع جميعها مع الطب الشرعي. كما يجب أن يكون الفريق العامل مُدركًا السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعمل في إطاره. ويجب أيضًا أن يعي أفراده والقائمين عليه تعقيدات الصراع المُفضية إلى إحداث المقبرة الجماعية التي يعملون عليها وأن يراعوا الحساسيات الثقافية التي تحيط بمسألة التعامل مع المقابر الجماعية.

ومن حيث توزع اختصاصاته، يجب أن يشمل الفريق العامل على فتح المقابر الجماعية وتحليها التخصصات الآتية:

  • عالمًا في الآثار، وتتركز مهمته في البحث عن بقايا العظام واستعادتها وجمع كل الأدلة المرتبطة بالجثث.
  • عالمًا في الأنثروبولوجيا الفيزيائية من أجل تحليل الهياكل العظمية بغرض تحديد هوية الشخص المُتوفى.
  • عالمًا في الأنثروبولوجيا الاجتماعية وتتركز مهمته في مقابلة أقارب الضحايا وفهم معتقداتهم وممارساتهم الدينية والثقافية من أجل ضمان حسن سير عمليات الحفر بما لا يُسيء إلى هذه المعتقدات والممارسات.
  • طبيبًا مُختصًا في علم الأمراض من أجل تحديد سبب الوفاة.
  • طبيب أسنان من أجل تحليل أسنان الضحايا.
  • مختص بالأشعة من أجل تحليل الصور الشعاعية للرفات.
  • مختصًا في علم الوراثة من أجل استعادة الملامح الوراثية من الهياكل العظمية.
  • مختصًا في علم الجريمة من أجل توثيق وتحليل وحماية الأدلة المرتبطة بالجُثث.
  • وقد يستلزم الأمر في حالات معينة استدعاء اختصاصات علمية أخرى مثل الجيولوجيا وعلم الحشرات والكيمياء.
  • يُستحسن أن يعمل الفريق العامل على فتح واستخراج الرفات من المقابر الجماعية تحت إشراف من قاض أو نائب عام مختص في القضايا الجنائية لضمان سلامة التدابير الجارية في الموقع من الناحية القانونية.
  • يجب أن يضم فريق العمل مصورًا فوتوغرافيًا من أجل توثيق وضعيات الجثث وأعمال الحفر والاستخراج بالصور.

 

ثالثًا: التوثيق المستمر

إن واحدة من أشد المسائل أهمية هي التوثيق بأشكاله كافة لكل مرحلة من مراحل فتح المقبرة، ولكل رفاة مستخرجة منها على حدة. إذ يجب:

  • وضع الاحداثيات الجغرافية للمقبرة، وابعادها، وطولها وعرضها بشكل مسبق ومستمر قبل وأثناء عملية استخراج الرفاة.
  • ضمان أن يكون هنالك تصوير فوتوغرافي بدقة عالية للمكان الذي يتم العمل فيه قبل وأثناء وبعد الحفر، بحيث تكون هذه الصور مرجعًا لتحديد طريقة الدفن وطريقة الاستخراج أيضًا.
  • أن تُلتقط صور لكل جثة مستخرجة بطريقة تضمن توثيقًا واضحًا لمعالمها.
  • اعتماد نظام توثيق وأرشفة يضمن سهولة العودة والتعرف على كل صورة وربطها بكل مرحلة من مراحل العملية: من بداية الاستخراج ثم فحص العينات وصولًا إلى إعادة الدفن.

 

رابعًا: جمع العينات والأدلة

ينبغي في أطار جمع العينات من الجثث المدفونة أن تُؤخذ مجموعة من العوامل بعين الاعتبار. هذه العوامل تتعلق بوضع الجثة نفسها، ومدى تحللها؛ والتربة وطبيعة المكان عامة. عمومًا يجب أن يتضمن فتح أية مقبرة أن تؤخذ جملة من العينات:

  • عينات بشرية: وتشمل (الانسجة الرخوة، العظام، الأسنان، الدم، البول، اللعاب، الحيوانات المنوية، السائل الزجاجي في العين، الشعر، الأظافر).
  • عينات مادية غير بيولوجية: وهذه تشمل (مواد كيميائية كالمخدرات، مواد سامة، مواد متفجرة، اسلحة نارية؛ آثار غائرة مثل اطارات المركبات والاحذية في مسرح الجريمة).
  • تحليل الأنماط (تحليل أنماط تناثر الدماء، أنماط الحروق، تحليل الكسور، علامات أو آثار الأدوات، تحليل الوثائق إن وُجدت).
  • عينات التربة أو البيئة: وهذه تتضمن أخذ عينات من التربية او البيئة المحيطة، والتي توفر لخبير الطب الشرعي تحديد مستويات الخلفية وترجيح أهمية الأدلة المُستخلصة.

 

خامسًا: دور العائلات والمجتمع المحلي

 

وفقًا لإرشادات الدولية، وثائق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن لعائلات ضحايا الإخفاء القسري والخطف والمجتمع المحلي حقوقًا قبل وأثناء وبعد إداء فريق العمل على المقابر الجماعية لدوره في فتح وتحليل المقابر.

  • الحق في التواجد أثناء عمليات استخراج الجثث، شريطة مراعاة إجراءات السلامة والأمن القانونية المعتادة.
  • الحق في أداء الطقوس الثقافية والدينية التي يرونها مناسبة قبل وبعد نبش الجثث، شريطة ألّا تؤثر على حسن سير العمل في المكان الذي يعمل فيه الفريق العامل على الحفر والاستخراج.
  • الحق في أن يتم إعلامهم بخطة العمل والنتائج الأولية لأعمال الحفر والاستخراج، وإعلامهم بتواريخ نتائج تحليلات الهوية وأسباب الوفاة التي ستُجرى لاحقًا في المختبرات.

تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية – داعش

 

[1] – نميز هنا بين مصطلحي “نبش” و”فتح”. يُشير مصطلح “نبش” إلى أي تعامل مع المقابر الجماعية يفتقد إلى الإطارين القانوني والسياسي ويجري دون علم أو موافقة أصحاب الحق الشخصي من أسر المفقودين والمخفيين قسرًا ولا يراعي كرامة المتوفي أو حاجات اسرته النفسية والقانونية والاجتماعية، ويفتقد كذلك إلى واحد أو كثر من الشروط  التعامل المهني مع المقابر الجماعية المشار إليها لاحقًا. بالمقابل، نستخدم مصطلح “فتح” للتعامل الشرعي والقانوني والمهني مع المقابر الجماعية والمُفضي تاليًا إلى تحديد هويات الضحايا ومسؤوليات الجُناة وكشف مصير القتلى والمفقودين.