ابني محمد ويس ضحية لصفاته وانتمائه. فمع بدء الانتفاضات الشعبية في ليبيا وتونس ومصر وفيما كُنّا نتابع الأخبار باهتمام، كان هو يتابعها بصمت. لم نكن ندري مدى تعلقه العاطفي بالأحداث الجارية وحماسته لها، لا سيما بعد انتهاء الثورة المصرية وظهور الشباب المصري على شاشات التلفاز يتحدثون عن تجربتهم في تحريك الشارع عبر التنسيقيات وغرف التواصل على الإنترنت.

مع بدء الحراك في دمشق ودرعا بدا لي وكأنه يسعى للمشاركة فيها، وكأنه يستعجل الزمن كي يصل الحراك الى حلب حيث نسكن. كان يتابع الأخبار ويناقش ويسأل عن كل التفاصيل. كان محمد يهوى الأدب والشعر ومولع بالإعلام والنجومية ومتفوقا في دراسته، كما تميز بحساسية مفرطة اتجاه مشاهد العنف الذي يرتكبه النظام بحق الشباب مما جعل روح التحدي ورفض الظلم يكبران فيه.

بدأت المظاهرات في حلب بقوة مع مطلع العام 2012؛ في تلك الأثناء كان محمد طالبًا في الثالث الثانوي، الفرع العلم. بدأت ألاحظ غيابه المتكرر عن البيت، خاصة في فترات المساء. في ما بعد عرفت ـنه يشارك في المظاهرات مثله مثل الكثيرين من شباب جيله؛ إلا أنني علمتُ لاحقًا أنه هو رأس الحربة في الحي الذي نسكنه، حي الأشرفية، وذلك من خلال عمله في إحدى التنسيقيات الشبابية.

بدأت أمارس الضغط عليه بحجة أن الامتحانات اقتربت، ويجب عليه إعطاء الألوية للنجاح في امتحاناته، والحصول على علامات جيدة. فكانت إجابته الدائمة: “سوف أنجح وأحصل على علامات جيدة. اطمئنوا !”.

عرفتُ أن نشاطاته تزايدت، وأنه أصبح في دائرة الخطر، عندما اختطفه شبيحة النظام  وطعنه بسكين في ظهره وتهديده بالتصفية الجسدية إن استمر في نشاطه وتنظيمه للمظاهرات ومطالبته بإسقاط النظام.

بحكم مهنتي كمحامٍ ودفاعي عن معتقلي المظاهرات في كوباني وحلب، جاء محمد عدة مرات إلى مكتبي صحبة أهالي المعتقلين لتوكيلي للدفاع عن أصدقائه المعتقلين.

بعد انتهاء الامتحانات وقبل صدور النتائج ونظرًا للحالة التي وصلت إليها مدينة حلب-حيث شاعت حالات القتل والخطف والفوضى-انتقلت الى مدينتي “كوباني” وأخذته فورًا الى مدينة “هولير” في كردستان العراق كي  أبعده عن الموت الذى كان يتحداه.

صدرت نتائج الامتحانات وكانت علاماته تؤهله لدخول كلية الهندسة، قسم الإنتاج. فقمتُ بتسجيله في الكلية وفي نفس الوقت أرسلتُ نسخةً من أوراقه الثبوتية للتسجل في هولير أيضًا.

 

بقي هناك سبعة أشهر يعمل نهارًا في أعمال البناء، رغم بنيته الناعمة إذ لم يمسك طوال حياته اي من آلات العمل اليدوي وبقي في الوقت نفسه متواصلًا مع الحراك في سورية. فكان يعمل من أجل الثورة وبالأخص في المجال الإعلامي، حيث يشارك الحدث ويكتب على صفحات التواصل الإعلامي. كان نبضه هنا في كل المناطق السورية المنتفضة.

ساء وضعه الصحي والنفسي وقرر العودة الى سورية. عاد في الشهر الرابع من العام 2013 إلى كوباني في الوقت الذي كانت فيه الفصائل المسلحة قد سيطرت على بعض أحياء حلب. بدأ بكتابة بعض التقارير عن الأحداث للقنوات الكردية، ثم سافر الى حلب حيث بدأ يعمل في مجال الإغاثة والتغطية الإعلامية لبعض الأحداث.

طلبت منه أن يغادر حلب إلى تركيا. كُنتُ حينها قد قررتُ السفر الى أوروبا بعد أن أحصل على جواز سفر لي وله.

سافر إلى تركيا واستقر في مدينة غازي عينتاب. هناك تلقى دعوة من وزارة إعلام إقليم كردستان العراق للمشاركة في ورشة للإعلاميين الشباب. أما أنا فكنتُ حينها في حلب وباتصال هاتفي طلبت منه التريث لأن الطريق من كوباني الى هولير كان يمر حصرًا عبر مدينة الرقة، التي كانت تسيطر عليها داعش وفصائل أخرى..

أراد أن يصل في الموعد المحدد لذلك سافر من كوباني الى الرقة بتاريخ 25 آب 2013. علمنا من خلال سائق الحافلة التي كانت تقله أن تنظيم  “داعش” اعتقل جميع ركاب الحافلة في قرية “خربة هدلة” في محافظة الرقة. بعد عدة ساعات من التحقيق معهم أُفرج عنهم جميعًا، ما عدا ابني محمد ويس الذي كان يحمل هاتفه النقال وجهاز اللابتوب الذين شكلا في ما يبدو دليلان كافيان في يد التنظيم ليتهمه بما يريد.

سافرتُ في اليوم التالي إلى مدينة الرقة؛ بقيت هناك خمسة عشرة يومًا تواصلت خلالها مع الفصائل واللجان والمجالس المدنية دون نتيجة. تابعنا الوساطات من خلال شخصيات اجتماعية والمقربين منهم والمتعاملين معهم. فكنا نعرض مرة مبالغ مالية ونطاب في مرات أخرى تدخل المعارف والأصدقاء، لكن دون جدوى.

بعد أن سيطر تنظيم “داعش” على مدينة الرقة بشكل كامل، وهَزَمَ الفصائلَ الأخرى ذهبتْ أم محمد عدة مرات لمراجعة أمراء التنظيم وعملائه ومجالسه العشائرية لكن دون طائل أيضًا.

في العام 2014 عقد تنظيم “داعشّ وقوات pyd اتفاقًا لتبادل الأسرى بينهما، وعلمنا حينها بانه تم إحضارهم الى مدينة منبج . سافرت أمه الى منبج وطلبت منهم معرفة وضعه إن كان لديهم وكان جوابهم بأنه تم تصفيته.

رغم كل جهودنا لفهم مصيره لم تصلنا أية معلومة أكيدة. أخذت الأيام والأشهر والسنوات تحفر في وجداننا وتنهش من أرواحنا وأجسادنا من حيث نشعر ولا نشعر. بتنا لا نشعر بمعنى الحياة، تحولنا إلى أسرى الانتظار والأمل الذي يضعف مع مرور الزمن واستمرار عداد الغياب الذي بلغ ثماني سنوات. اليوم هي الذكرى الثامنة لغياب ابني محمد في سجون الظلام.

محمد أمين مسلم