في هذا النص تستحضر غفران المشعان ذكرياتها مع عمها الشاب بشار المشعان وتروي قصة فقده على يد تنظيم داعش في مدينة دير الزور في عام 2014.

 

أنظر إلى صور ابن عمي مثنى التي ترسلها لي أمي وأرى الشبه الواضح بينه وبين أبيه (بشار) الذي اختطفه تنظيم داعش في 15 أيار 2014 و حرمه من رؤية ولده وحمله بين يديه كما حرم ابنه مثنى من حماية أبيه ورعايته له. كنت أراه يتابع أبناء أخي وهم يهتفون بابا فيتمزق داخلي ألمًا. أشعر جيدًا بآلامه فأنا أيضًا مزقني اليتم وفقدت أبي وأنا صغيرة كما فقدت أعمامي وكان بشار آخر من فقدت، ولكن تقارب عمرنا جعل ثقل فقده مضاعفًا فلم يكن بالنسبة لنا فقط العم وإنما رفيق الطفولة أيضا.

اسمي غفران مشعان، سأروي لكم عن عمي بشار الذي حرمنا منه تنظيم داعش، كنا نعيش في بيت واحد أي أننا نسكن في بيت جدي ونمضي معظم وقتنا معًا لذا أصبح عمي رفيق طفولتي وهو الذي ولد في عام 1995 وأصبح بالتالي صديق طفولتي. كان لدي 5 أعمام وعمة واحدة وقد تزوج والدي قبل شقيقه الأكبر (عمي قتيبة الوحيد الناجي بين أعمامي كلهم)، ولد أخي عبدالرحمن عام 1997 وولدت بعده بعامين فكان أن أصبحنا ثلاثتنا أي أنا وأخي وعمي رفاق في المدرسة والحي.

كان بشار آخر العنقود لذا كان فتى مدللًا جدًا ويحب المشاكسة، أذكر أنه عندما كان يتخاصم مع أخي عبدالرحمن ويغضبون من بعضهم يأتي إلي إذا ما احتاج أي شيء من أغراض عبد الرحمن فأحضرها له وبدون علم أخي، كنت دائما الوسيط الذي ينهي الخلاف بينهما.

اعتقل أبي مرات عديدة من قبل النظام السوري في 2001 و2006 وفي بداية الثورة وبقينا لسنوات لا نعلم عنه أي شيء، كانت أوقاتا صعبة علينا جميعًا، ووحده بشار كان يخفف عنا بروحه المرحة. هكذا كان، يحب المقالب والنكات، محبوب لدى الجميع عند أساتذته ومعلماته بظنهم أنه كان طالب ظريف، إلا أن بشار حرم من الذهاب إلى المدرسة وتحقيق حلم طفولته بدراسة  المعلوماتية والبرمجة .

عندما ولد بشار سمته جدتي “بشار” لأنه حمل لها البشارة فقد خرج شقيقه في نفس اليوم من معتقلات الأسد وكنا قد فقدنا الأمل بخروجه بعد أن أمضى أربع سنوات ونصف في معتقلات نظام الأسد. كره بشار اسمه وهو نفس اسم  بشار الأسد الذي تسبب بمقتل أخوته الأربعة. فقد حول هو ونظامه الثورة السورية إلى حرب سرقت أجمل شباب سوريا من بينهم أخوة بشار الأربعة: زهير الذي قتل في المظاهرات وعبيدة الذي قتل أثناء إسعافه لأحد الجرحى ووالدي تشرين الذي قتل بعد عبيدة بعشرة أيام فقط وعقبة الذي اعتقل ولم يعرف أحد عنه شيء لتظهر صورته لاحقًا بين الصور التي سربها الضابط المنشق قيصر وليتبين أنه قتل تحت التعذيب.

لم أكن أتخيل أني سأرى في يوم من الأيام بشار صاحب الدعابة والروح المرحة، حزينًا ومضطربًا، فقدانه لأخوته مسح عن وجهه الابتسامة، وكنت أرى بشار يومًا بعد يوم يتغير ويصبح انعزالي أكثر، حيث لم أعد أرى الشخص الذي اعتدت مزاحه وحبه للدعابة. رغم كل ذلك ورغم حزنه على إخوته إلا أنه كان دائمًا سندنا الوحيد المتبقي لنا ولعائلته، يقوم بتلبية حاجات المنزل ويساعد الجميع.

تحت رغبة والديه وإصرارهم ورغبتهم برؤية أحفاد لهم، تزوج عمي بشار وكنا ننتظر بفارغ الصبر طفله القادم  الذي سيجلب السعادة للمنزل بضحكاته وابتسامته، لكن سرعان ما فجعنا بفقدنا هذه المرة لبشار وهو الابن الخامس الذي فقدته العائلة.

اذكر قدوم أخي إلى المنزل في منتصف أيار عام 2014 ليخبرنا بوجود جرحى عند معبر “البو عمر” الذي قام  تنظيم داعش بمهاجمته  وأن عليه أن يذهب لمساعدة المدنيين ونقلهم لمناطق آمنة ولذلك يريد استخدام سيارة جدي. لم يستطيع عمي بشار الجلوس في المنزل وإنما هم للمساعدة أيضا. في تلك الأثناء لم نكن نعلم بخطورة الموقف، ظننا أنهم فقط سيقومون بمساعدة العائلات ونقلها من المعبر إلى مناطق آمنة ومريحة لتلك العوائل.

مرت ساعات ولم نشعر بها إلى أن جاء أخي وبدت عليه ملامح القلق، وعندما سألناه عن عمي بشار أخبرنا أنه سيعود خلفه. دخل أخي إلى المنزل وإذ بأحد أقاربنا يذهب خلفه لم نكن نعلم بما يحدث بل ربما كان داخلنا يعلم الا أننا أردنا أن ننكر الأمر في تلك اللحظات العصيبة، ذهبت أمي أيضًا خلفهم وإذا بها تسمع قريبنا يسأل أخي “هل الخبر صحيح” فيرد أخي: “نعم” وهو يحني رأسه ويردد “أنا السبب أنا الذي مضيت به إلى هناك”.

كان خبرًا مفجعًا لنا جميعًا، لقد ذهب بشار لمساعدة الناس ولكنه اختفى ولم يعد منذ ذلك اليوم، أخبرنا أحدهم أنه تلقى قذيفة أطلقها تنظيم داعش وقتلته على الفور، لم نرى شيئًا، أخبرونا الأشخاص الذين كانوا عند المعبر أن القذيفة سقطت عليه ولم تترك منه أثرًا إلا عند ذهابنا لتفقد الأمر وجدنا تنظيم داعش مسيطر على المنطقة وعند سؤالنا لهم عن بشار أخبرونا أنهم أحرقو جميع الجثث وهنا كانت الصدمة الأكبر لعائلته ليس فقط لأنهم لم يودعوه بل أيضا لم يروه بعد موته، لقد كان ألمًا كبيرًا لنا جميعًا وبالذات لزوجته فقد رحل بشار ولم  يكن قد رأى طفله الذي كان بانتظاره .

بدأ جدي بالبحث لم يصدق أي كلمة مما قيل له، كنت أرى الحزن يأخذ حيزًأ كبيرًا في العائلة خصوصًا أن الأنباء كانت متضاربة جدًا تارة حول مقتله وتارة أخرى حول اختطافه، ولم يكن أحد يعلم حقيقة ما حدث.

هربنا إلى تركيا بعد ملاحقة التنظيم لأخي وعمي قتيبة وعمتي لأنهم نشطاء مدنيين وهناك تلقينا صدمة أخرى حين علمنا بموت عمي عقبة تحت التعذيب بعد تسريب صور قيصر.

أعجز عن اختيار الكلمات التي تصف بشار ومازلت أفتقده كثيرًا، أضحك حين أذكر نكاته ومقالبه ثم أغص بها فتتسارع دموعي.

ليتني أعرف ما حدث له ليتني أجد قبرًا يضمه حتى أضع الورود عليه، ليت جدتي وجدي يعرفون على الأقل لكي يتمكن مثنى من زيارة قبر والده ،تعزيتي الوحيدة هي مثنى الذي يحمل الكثير من صفات أبيه.

غفران المشعان