أنا هلا الحاج صالح، ابنة عم هيثم وزوجته. هيثم الحاج صالح من مواليد الرقة عام 1978، درس «معهد معلم صف” وعمل كمعلم ثم لاحقًا كأمين سر. تزوجنا أنا وهيثم في عام 2007 وأنجبنا ثلاثة أبناء؛ عشنا حياة هادئة وسعيدة مع أبنائنا. هيثم الذي كنت أراه قسمتي الجميلة من الحياة، كان شخصاً هادئًا، ليس لديه مشاكل مع أحد، صاحب مروءة، متفهم، بحيث لم أواجه مشكلة حقيقية معه طوال فترة زواجنا، كان قريباً جداً من أطفاله، حنوناً لدرجة أنهم تعلقوا به وعانوا كثيراً بعد اختفائه إذ كانوا أصغر من أن يتقبلوه نفسياً، أو أن يفهموه فترك هذا الغياب أثره المؤلم فيهم وما زال.

“نايا” ذات الثمانية أعوام هي أصغر أبنائي أنا وهيثم؛ نايا كانت بعمر لا يتجاوز التسعة شهور عندما اختطف والدها على يد تنظيم داعش، أدركتْ العالم دون وجود أبيها، شاءت الأقدار أن تولد في بلاد يُقتل ويُختطف فيها أجمل أبنائها، فقط لأنهم طالبوا بالعيش في وطن حر كريم، وأن تكون هي الابنة التي لم تعرف أبيها إلا من خلال صوره ثابتة الملامح.

نايا التي تحلم كل يوم بعودة أبيها وتلاحقني بأسئلتها وكلامها الطفولي، تردد دائماً هذه العبارة على مسامعي: ” كلكم تعرفون بابا … بس أنا ما أعرفو ولا مرة شفتو!”

في الحقيقة لا أملك أمام أسئلتها إلا الحيرة والعجز؛ ومن أين لي بجواب أكيد أقدمه لها وأنا نفسي أعيش غموض غيابه منذ ثمان سنوات، متأرجحة بين الأمل بأنه مازال حياً، أملٌ أصرُ على التمسك به، وبين هواجس تنتابني في أوقات تطول أو تقصر حين يجتاحني الياس من عودته.

لم نكمل أنا وهيثم سنوات زواجنا السعيد، ولم يستطع أطفالنا أن ينعموا بحنانه وبأبوته المميزة، وإنما جاء تنظيم داعش ليحول الحب إلى قهر وانتظار وحياة العائلة إلى جحيم.

هيثم والثورة السورية

رغم غياب هيثم عن أي عمل سياسي ما قبل الثورة السورية ورغم عدم تبنيه لأي انتماء سياسي، كان من أوائل المشاركين في الحراك الثوري والعاملين بشكل سري في مدينة الرقة، إيمانًا منه بمبادئ الحرية والكرامة. شارك في المظاهرات السلمية ضد نظام الأسد والعمل الإغاثي في مدينة الرقة، التي استقبلت أبناء المحافظات الأُخرى المنكوبة. عندما بدأت قوات النظام باستهداف المدنيين، انخرط في العمل العسكري، في البداية بدأ بمساعدة جنود النظام، الذين رفضوا المشاركة في قتل المتظاهرين السلميين، على الانشقاق من الجيش السوري والهرب إلى المناطق الخارجة عن سيطرته؛ ولاحقاً انضم إلى الجيش الحر وحارب بجانبه ضد نظام الأسد مدافعًا عن المدنيين العزل.

داعش عدو أبطال الحرية

بوصفه شخصًا فاعلًا في الثورة السورية على الصعيد السلمي والعسكري، كان هيثم هدفًا لتنظيم داعش الذي بدأ بتصفية واختطاف الناشطين المدنيين وعناصر الجيش الحر وتفريغ مدينة الرقة من قواعدها الثورية.  في صباح يوم 21 أيار 2013، تعرض هيثم للاختطاف من مدينة الرقة. في ذلك اليوم جاء شخص إلى بيتنا وقال له أن يسرع لأن رفاقه في الجيش الحر يريدون منه المجيء بسرعة، كانت الساعة حوالي السادسة والنصف صباحاً، حاولتُ وقتها أن أمنعه من الذهاب لكنه قال لي أنه سيعود سريعاً، حل المساء ولم يعد، حتى أنه لم يتصل. أعددتُ العشاء وجلستُ والصغار ننتظره، لكنه لم يعد من وقتها، يبدو أنه كان كميناً من داعش ومن أتى لأخذه كان متعاونًا معهم. حتى هذا اليوم ننتظره، لم يفارقنا الأمل بعودته رغم رحلة البحث والانتظار والمصاعب التي تتعدى الجانب النفسي إلى خطر السلامة الأمنية الذي يهدد عائلتي.

العائلة ورحلة البحث: بين المخاطر والأحزان

وجدت نفسي وحيدة مفجوعة أمام الكارثة: أمٌ لثلاثة أطفال وزوجة ملتاعة على غياب شريك حياتها؛ تقع على عاتقها ليس مسؤولية حماية أطفالها وتأمين مستلزماتهم المادية والمعنوية وحسب، بل أن تبقى قوية أمامهم وأمام فقدهم، وفوق ذلك مسؤولية البحث عن أبيهم والسعي قدر المستطاع من أجل عودته سالمًا؛ وفي كل هذا تتحمل انكسارات وآلام الانتظار والغياب والآمال المُحطمة على عتبات الخيبات.

في الأيام الأولى لاختفاء هيثم كانت لدي قناعة أن مسألة اختفائه هي أمر مؤقت وأنه سيعود قريبًا. لم أتصور أن يمتد كل هذه السنين. كنت أمضي ساعات يوميًا على شرفة منزلنا بانتظار عودته؛ هذه الساعات تحولت إلى ثمان سنين من الانتظار حتى الآن وما يزال الأمل بعودته يرافقنا أنا وأبنائه؛ يضعف هذا الأمل أحيانًا، إلا أنه سبيلنا الوحيد لاحتمال مشقة العيش بظل الغياب المؤلم لهيثم.

حاولت كثيرًا البحث عنه وعرضت نفسي للخطر بالذهاب إلى مقرات داعش للسؤال عنه أكثر من مرة، ودائماً كنت أتلقى من عناصرهم نفس الجواب القاسي، أنه قتل بتهمة “الردة” وحتى بعد سماع هذا الجواب كنت أعاود الذهاب إليهم والسؤال لعلي أحصل على جواب غيره، لكن دون فائدة.

خلال هذه السنوات الثمان لم أكن دائماً على نفس الدرجة من القوة؛ مررت بلحظات ضعف كثيرة ولم أستطع أن أتمالك نفسي حتى أمام أطفالي، قضيت أياماً صعبة ومررت بمواقف مريرة. كنت أنظر إلى أولادي فينتابني الخوف من ألَّا أستطيع أن أملأ الفراغ الذي تركه أبوهم؛ أصبح ذلك همي الوحيد في الحياة: أن أكون الأب والأم في حياة أولادي.

صعوبات الغياب: بين الابتزاز والنزوح

بالإضافة لكل ما سبق من الصعوبات التي واجهتها بوصفي أمًا تسعى إلى حماية أطفالها في حياة غير عادلة تركت لي ولهم حصة من الغياب والفقد الغامض مثل الكثير من عائلات المختطفين، كنت أيضًا هدفًا لعمليات ابتزاز من قبل سماسرة الحرب الذين يتفننون باللعب بمشاعر العائلات ويتغذون من مخاوفهم وتمسكهم بآمال ترضخ لأخبار وعمليات ابتزاز تزيد من قهر وصعوبة الغياب.

“كان يأتينا خبر بين الحين والآخر بأن هيثم لا يزال حيًا وأن أحدهم قد شاهده بأحد السجون؛ لا أستطيع أن أصف شعوري بعد هذه المواقف أو الأخبار. لا تستطيعون تصور حجم الألم الذي كنت أعيشه بعد أن يرتفع الأمل لدي إلى ذروته ولا أجد بعده إلا السراب؛ تلاعب رخيص بمشاعرنا من قبل أناس لم أفهم غايتهم ولا دوافعهم.

كان هيثم مصدر رزقنا الوحيد لذلك واجهت تحدي تأمين دخل لعائلتي بما فيها تعليم الأولاد ومستقبلهم وصعوبات أخرى ترتبط بالاستقرار في بلاد تأكلها حرب طاحنة ويتناوب عليها الطغاة والمستبدين. كان على أن أختبر مع أطفالي ألم النزوح وقسوته، وأن أنتقل بين مناطق عديدة إلى أن استقرينا في تركيا.

بعد اختطاف هيثم بقينا فترة في الرقة على أمل عودته، كي لا يعود ويجد البيت خاليًا؛ بعدها اشتد ضرب الطيران للرقة فأخذتُ أولادي وذهبنا للقرية، سكنتُ هناك مع أولادي في مدرسة القرية؛ بقينا هناك سنتين تقريبًا؛ فترة النزوح كانت صعبة على الجميع؛ سار وضعنا المعيشي من سيء لأسوء. وكانت الأوضاع العامة سيئة لدرجة أن تأمين الماء كان صعبًا. بالطبع الحديث عن عدم وجود تعليم للأولاد في تلك الفترة قد يبدو نوعاً من الرفاهية التي لا يلتفت لها أحد، كان ما يشغل الجميع هو مجرد البقاء على قيد الحياة بأدنى متطلباتها.في هذه الأثناء كان داعش قد استولى على بيتنا بالرقة، ولاحقًا قصفَ الطيران الحربي البيت ودمره نهائيًا؛ حمدتُ الله حينها على نزوحنا ونجاتنا من الموت تحت أنقاضه.

بعد سنتين من سكني بمدرسة القرية انتقلت للسكن بغرفة بجانب أهل زوجي في نفس القرية. لم يكن لدي حينها أي مصدر للعيش. لم أكمل مدة السنة في هذه الغرفة، إذ قررت الخروج إلى تركيا بحثًا عن الأمان وعلى أمل أن يكمل أولادي تعليمهم وأن أحصل أنا بدوري على عمل.وصلنا بعد رحلة شاقة إلى تركيا. كانت البداية صعبة جدًا، وحتى الآن ما زلنا نواجه بعض الصعوبات أو أننا تعودنا على احتمال الصعوبات، هذا ما أظنه.

أعيش اليوم مع أطفالي الثلاثة في تركيا بأمان، إلا أن غياب هيثم خلف حزنًا وغصة لا تسقط بالتقادم. أعيش مع أطفالي على أمل اللقاء بهيثم يومًا ما، أحاولُ بث القوة والأمان فيهم رغم قسوة الانتظار والغياب الذي لم يسرق منا فقط شريك الدرب وإنما فرح كامل وطمأنينة وسلام لا يمكن الحصول عليهم إلا بعودة هيثم.

هلا الحاج صالح