يرتبط اسم اسماعيل الحامض في ذاكرة مَنْ عرفوه بشعور بالأمان والثقة يمنحها حضوره كإنسان وعمله كطبيب؛ يرتبط أيضًا بقدرته على مدهم بالشجاعة وتذكيرهم بأن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” حتى في أحلك الظروف. هو كذلك في كل أدواره، ابنًا وشقيقًا وزوجًا وأبًا وطبيبًا وصديقًا ومواطنًا عاملًا في الشأن العام.

وُلد إسماعيل الحامض في إدلب بالعام ١٩٦٤ في بيئة ريفية فقيرة، امتحنته باكرًا لتجعله رجلًا عصاميًا قادرًا على تحديد أولوياته وإدارة حياته بكثير من الدقة والمثابرة، وعلى تمييز الظلم واللاعدالة الاجتماعية حيث وُجدا. عصاميته هذه أنمتْ لديه شعورًا بالكرامة في بلاد يتجرع أبناؤها نصيبًا يوميًا من الإذلال والمهانة، كما عززت لديه إحساسا عاليًا بالواجب تجاه مواطنيه.

في ثمانينيات القرن الماضي وأثناء دراسته في كلية الطب بجامعة حلب ثم خلال فترة الاختصاص طبيبًا جراحًا، بدأ انخراطه في الشأن العام، رغم أن الحراك السياسي وقتها كان محدودًا وفي حالة انحسار شامل بسبب قمع النظام. في هذه المرحلة، شأنه شأن كثيرين، حَلُمَ بوطن تُحترم فيه كرامة الإنسان وحريته.

زوج عصامي بنى مع حبيبته زبيدة عشاً دافئاً في مدينة الرقة لفتياته الأربعة وابنه الوحيد، وفر لهم جو عائلي تسوده الألفة والمحبة ومدهم بجملة من المبادئ والقيم الإنسانية، منه تعلموا متعة القراءة وأهمية التحصيل العلمي، ومعه اختبروا حرية النقاش والتساؤل والاعتراض، ومن شجاعته ووعيه السياسي عرفوا أهمية الحرية والكرامة والديموقراطية. فقد كان معارض سياسي لنظام حافظ الأسد ونظام بشار الأسد وأحد الموقعين على إعلان دمشق عام ٢٠٠٥ وعضو مجلسه الوطني. عارض نظام الاستبداد رغم كل المخاطر والتهديدات من نظام لا يعرف إلا الإجرام بحق كل من يقول لا. كان اسماعيل لفتياته الأربعة وابنه الوحيد الأب الشجاع ومصدر إلهام وقوة والمثال الأجمل.

اسماعيل، الطبيب الجراح ذو الحس الإنساني العالي، مخلص لمهنته وطابعها الإنساني، فقد كان ملجأ لمرضاه وأصدقائه وكل من قصده، حتى لقبه البعض بطبيب الفقراء وفيما بعد بطبيب الثورة السورية في مدينة الرقة. ببساطة كان طبيباً مميزاً وفريداً في طبيعته وأخلاقه وانسانيته ومبادئه وجاءت الثورة السورية لتثبت ذلك وبجدارة. فقد قرر الدكتور إسماعيل الحامض إنهاء إقامته في السعودية بعد ثلاث سنوات من العمل خارج البلاد وعاد إلى سورية ليحقق حلمه بالمشاركة في الحراك السلمي في أواخر عام ٢٠١١.

كان من أوائل من انضموا للاحتجاجات السلمية، فقد كانت الثورة حلماً يتحقق. شارك هو وعائلته في المظاهرات ضد نظام الأسد، ولم يكتف بذلك بل كرس مبضعه ومهنته الإنسانية لمداواة جرحى الاحتجاجات والنازحين من المناطق السورية الأخرى، كما عمل في المجال الإغاثي كمدير لمشروع إغاثي واسع المدى رغم التهديد الدائم وخطر تعرضه للاعتقال من قبل النظام. لم يكن يبالي بالمخاطر، كان كل ما يعنيه أن تتخلص البلاد من نظام الاستبداد وتحيا الأجيال القادمة في بلد حر ديمقراطي.

 بعد سيطرة الفصائل المعارضة على مدينة الرقة، رفض الدكتور اسماعيل النزوح خلال المعارك الأولى في المدينة رغم القصف الهمجي من قبل النظام. وفي الأشهر التي تلت تحرير المدينة بقي مع عائلته يمارس مهنته ويعمل في مجال الإغاثة والسياسة في وقت كانت فيه المدينة في أمس الحاجة لذلك. ما كان يميزه في ذلك الوقت هي قدرته على التأثير على محيطه وعلى الشباب الثائر، وذلك بأسلوبه البسيط في شرح الأشياء والتعبير عن رأيه مع احترام الرأي الأخر. كان يقلقه الانتشار الكبير لمظاهر السلاح والتشدد الإسلامي بين الفصائل المعارضة في المدينة، وأخذت مخاوفه تتفاقم مع الصعود المفاجئ لتنظيم الدولة الإسلامية – داعش – واتباعه سياسة الخطف مع معارضيه، لكن ذلك لم يردعه من التعبير عن رفضه ومعارضته للتنظيم. فشارك بمظاهرات واحتجاجات تطالب التنظيم بإطلاق سراح المختطفين لديه إلى أن جاء اليوم الذي أصبح واحد منهم.

اُختطف “طبيب الفقراء” في الثاني من تشرين الثاني ٢٠١٣، تشرين الأسود كما تسميه عائلته؛ هذا الشهر الذي تغيرت فيه حياتهم إلى الأبد.قُبيل خطفه، كان قد تعرض للتهديد من قبل التنظيم عدة مرات، لكنه لم يأخذ تلك التهديدات على محمل الجد أو أنه لم يستطع المغادرة والتخلي عن كل ما حلم به. كان يردد دائمًا عبارته: “هذه البلاد بلادنا لن نتركها للغرباء، سنقاوم حتى النهاية”.اعترضت سيارتان طريق “طبيب الفقراء”، اسماعيل الحامض، أثناء ذهابه إلى عيادته. نزل منها مسلحون اقتادوه إلى جهة مجهولة.

الجيران الذين شهدوا عملية الخطف أخبروا عائلته بالفاجعة. كان ذلك آخر خبر عنه. لم تستطع العائلة الحصول على أي خبر أكيد حول مصيره، حتى يومنا هذا.

في هذه الأثناء، كانت زوجته في طريق عودتها إلى مدينة الرقة بعد أن أمضت عدة أيام في مدينة حلب تساعد فتياتها هبة وسارة في التحضير لعامهم الدراسي في جامعة حلب. لم يسعف الوقت زبيدة لترى زوجها، فقد خُطف قبل ساعات من وصولها. وحين وصلت لم يكن شريك الدرب بانتظارها في محطة الباصات كعادته.

منذ تلك اللحظة ومن هناك، من المدينة التي يسيطر عليها مجرمون مهووسون وشذاذ آفاق جوالون، بدأت “زبيدة” رحلة المعاناة والبحث عن زوجها المفقود.

كانت العائلة مشتتة بين مدينتي الرقة وحلب. “سارة” و”هبة” بقيتا في حلب لمتابعة دراستهن الجامعية في أقسى ظرف تمر به الأسرة. فعلن ذلك لإدراكهما أهمية وقيمة استمرارهما في الدراسة لأبيهما الغائب، في حين بقيت “زبيدة” مع ابنتيها “ريم” و”ماريا” وابنها “حازم” في الرقة لتواصل بحثها عن الزوج والسند.

لم تتردد “أم حازم” في طرق باب أي شخص قد يستطيع مساعدتها. لجأت إلى قادات التنظيم، إلى شيوخ العشائر وإلى شخصيات مهمة في المدينة، رغم معرفتها أنه يمكن لعينيها أن تلتقي بعيني خاطف زوجها دون أن تدرك ذلك.

لم تتلق أية إجابة مفيدة رغم وضعها الكثير من الآمال على صفقات تبادل وعِدَت بها من قبل شيوخ العشائر والجيش الحر، ولكن دون فائدة. كانت تمضي الليالي على شرفة المنزل، تراقب عينيها الشارع، خوفاً من أن يأتي إسماعيل ولا تكون هي أول مَنْ يراه.

 بقيت العائلة أحد عشر شهرًا على هذا الحال، عانت خلالها الكثير في مدينة يسيطر عليها تنظيم داعش ويفرض أقسى قواعد السلوك والحركة، وخاصة تلك التي تقيد وتحد من دور المرأة خارج بيتها.

بغياب “أبو حازم”، فقدت العائلة مصدر الأمان والاستقرار. وعلى عاتق زبيدة وقعت المسؤوليات الأكبر، فكان عليها أن تبحث عن زوجها أن تحمي في الوقت نفسه عائلتها من أي خطر محتمل قد يطرأ في سياق حرب طاحنة، وأن تبثهم الأمل والقوة كي لا تنهار العائلة. كانت مدركة مع فتياتها وابنها كم هم وحيدون في هذه الكارثة وبأن عليهم أن يدعموا بعضهم البعض لينجوا بأقل الخسائر، بالحب والتلاحم كعائلة استطاعوا أن يواجهوا مشاكل الفقد المرير والقاسي الذي خلفه غياب “عمود البيت”.

في شهر تشرين الأول ٢٠١٤، وبعد بدء قوات التحالف الدولي هجماتها العسكرية على التنظيم والمدينة وتنامي المخاطر على سلامة أطفالها، قررت زبيدة أن خير ما تفعله هو الحفاظ على ما تبقى من عائلتها ومغادرة المدينة باتجاه تركيا.

هناك، في تركيا، بقي أفراد الأسرة ثلاثة أشهر قبل أن يغادروا جميعًا إلى وجهتهم الأخيرة، فرنسا، حيث بدأت رحلة اللجوء والسعي للاستقرار في بلاد جديدة. وهناك، في فرنسا، تستمر الأسرة في حمل جرح إسماعيل، الحاضر الغائب، وآلام وطن تشتد يومًا بعد آخر، ويتلقون صدمات الفقد والنزوح والغربة وآلامها.

اليوم، تقيم زبيدة مع فتياتها الأربعة وابنها في فرنسا. الأبناء كلهم نجحوا في إكمال تعليمهم العالي في الجامعات الفرنسية. بدأوا في صناعة حياة جديدة. لم يلتئم جرح غياب اسماعيل ولم يتوقفوا يوماً عن انتظاره، هو حزن دائم لا يفارقهم وغصة لا يداويها الزمن، لكنهم يرعون دائماً الأمل ويدارون الجرح بالحب والألفة التي بينهم، بالحوافز لتحقيق ذاتهم، علّ إسماعيل يعود يوماً ليفخر بما حققوا.

زوجة إسماعيل و أبناؤه لم يتوقفوا عن نضالهم من أجل معرفة الحقيقة، بالرغم من إدراكهم لجميع التعقيدات السياسية التي تفرضها قضية المختطفين لدى داعش. اليوم لم يعد التنظيم قائمًا، ولم يعد يسيطر على أرض كما لا تبدي أي من السلطات المسيطرة على المناطق التي سيطر عليها التنظيم سابقاً اهتمامًا بمصير المغيبين على يد داعش. قضية أبيهم وآلاف المغيبين، قضية عادلة ومحقة، يتوجب الدفاع عنها وحملها وصولاً إلى الحقيقة والعدالة. لم يستسلموا بالرغم من كل الاحباطات التي مرت بهم. تشعر عائلة اسماعيل أنه تم التخلي عنهم من قبل الجميع وأنهم وحيدون في معركتهم هذه.

 لذا تشكل اليوم عائلة إسماعيل جزء من تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية – داعش، انضمت للتحالف وكلها أمل بأنه بتوحيد جهود جميع العائلات تستطيع الوصول يوماً إلى اسماعيل وآخرين غيبوا على يد التنظيم.