لعل أي إنسان يواجه صعوبة في الحديث عن ذاته وتعريفها فكيف بي الآن وأنا مطالبة بأن أحفر في ذاكرتي عميقًا لأخرج أثمن قطعة من روحي وأنثرها هنا بين هذه السطور، إنه فؤاد الحبيب  والزوج والصديق ورفيق الدرب، و ليس أكثر حزنًا وإيلامًا وأشد مرارة علي حين أشرع في استحضار ذكراه من أنني لست متيقنة تماما ما إذا  كان على قيد الحياة أم أنه أصبح جزءا من الماضي الذي لن يعود.

فؤاد أحمد المحمد، ابن دير الزور المتجذر في قيمه وأصالته شقيق الفرات العظيم، الإنسان النبيل والشاعر المرهف والكاتب الملهم  والرجل الثائر والطفل اليتيم الذي غيب الموت أمه  وحرمه من حنانها وهو في العاشرة وذاق مرارة فقد الأب وهو في الثامنة عشر، كان والد فؤاد قد رحل باكرًا إثر تعرضه لجلطة دماغية حزنًا وكمدًا على أخيه الأكبر عماد و الذي تم اعتقاله وهو في سن السابعة عشر من قبل نظام الأسد الأب، حيث باع الوالد كل ما يملك وأنفقه في رشوة ضباط أمن النظام في سبيل  معرفة ولو معلومة واحدة عن ولده السجين ولكن كل جهوده خلال ثلاثة سنوات ذهبت سدا إلى أن رحل ليحمل فؤاد من بعده أعباء أسرة مكونة من ستة أفراد.

كان الأخ البكر لفؤاد، زياد، مقيم في العراق وممنوع من زيارة أهله بسبب العلاقات المتوترة بين دمشق وبغداد في تلك الأيام فكان قدره مثل أي مواطن عربي داخل الوطن وخارجه أن يدفع ضريبة اقتتال الأنظمة الدكتاتورية ببعضها البعض، فبعد إقفال الحدود بين البلدين كان كل سوري مقيم في العراق هو بمثابة متهم لا يستطيع العودة إلى بلده، وكانت كل رسالة تأتي من الأخ الأكبر تتسبب في استدعاء العائلة إلى الفروع الأمنية للتحقيق معهم،  حتى أنه في إحدى المرات تم ضرب فؤاد بوحشية من قبل المحققين ولم يتركوه حتى تسببوا له بكسر في الحنك ظل يعاني منه طيلة حياته.

هكذا نشأ وتربى فؤاد، وفي ظل كل هذه الظروف القاسية كان يحمل على كاهله مسؤولية إعالة إخوته ورعايتهم كما أنه ظل يواظب على دراسته حتى حصل لنفسه على مقعد في كلية الآداب قسم الفلسفة، وكانت البيئة التي ترعرع فيها كفيلة بأن تنمي وعيه وتشحذ ثقافته وأن يتعاظم في نفسه توقها إلى سماوات الحرية ومبادئ العدل والمساواة وكرهها لكل أشكال الظلم والاستبداد.

شاءت الأقدار أن ألتقي به في أروقة الجامعة وتعارفنا عن طريق أصدقائنا المشتركين، وكنت أنا الفتاة العشرينية ابنة محافظة السويداء التي تنتمي إلى طائفة الموحدين الدروز و كانت العادات والتقاليد فيها تحرم أي ارتباط  مع شخص من خارج الطائفة، ولم تكن هذه الفكرة تخطر لي يوما لكن فؤاد الإنسان الحر الثابت على مبادئه وقيمه ومبادئه جعلني أخوض غمار تجربة كدت أن أدفع حياتي ثمنًا لها وفي النهاية فإن شخصيته الراقية وطريقة تفكيره المتحررة وثقافته العالية جعلتني أتعلق به أكثر وأقدمنا على الزواج.

طيلة حياتي التي عشتها معه كنت امرأة حرة بكل معنى الكلمة، لازلت أذكر في زيارتنا الأولى لمنزل عائلته في دير الزور تفاجأت بغرفته التي تغص بالكتب فقلت له مستفهمة: ” فؤاد كل هاي الكتب قريتها ” فكان أن ضحك من قولي حتى دمعت عيناه ثم قال: ” لكان جبتها لأحلف عليها ” ، كان من الأشخاص  الذين يتركون بصمةً وحضورًا في كل من يلتقي بهم و كان إنسان يفيض بالحب والحنان لعائلته وأولاده، لا أذكر أنه قام بضرب أحدهم ولو لمرة واحدة  طوال حياته، كانت سيرة حياته كفاحًا مستمرًا على كافة الأصعدة، فهو الطالب الجامعي وهو المعيل لأسرته وإخوانه وأوجد لنفسه الوقت والمساحة للشعر والكتابة  فأنتج ثلاثة دواوين شعرية أطلق على الديوان الأول اسم (أمارجي) وتعني الحرية باللغة السومرية وقد سمى ابنته بذات الاسم وكان  بعدها أن أنتج ديوانين آخرين حملا اسم (حين مات أبي)  و (إلى أمي)، لكن كل نتاجه الأدبي بقي في سورية وديعة عند أحد الأصدقاء لأني لم أستطع أن أجلبه معي إلى تركيا.

كانت أجمل مرحلة في حياتنا هي بداية الربيع العربي واندلاع الثورة السورية، كنا ننزوي في ركن البيت بعيدًا عن الأولاد لتدور في ما بيننا نقاشات مطولة في عن مدى إمكانية حصول ذلك في سورية حيث كانت ولادة الثورة بمثابة ولادة جديدة لنا ولطموحاتنا وآمالنا في نيل الحرية والانعتاق من نير الظلم والاستبداد الذي يخيم على صدر هذا البلد منذ خمسة عقود.

في تلك الفترة كان فؤاد يتردد على مبنى إذاعة دمشق حيث كان يعمل في كتابة برامج توجيهية للأطفال والسهرة التي تذاع كل يوم خميس، ولم يكن متعاقدا بشكل رسمي إنما كان يعمل لفترات متقطعة ونتيجة لما كان يسمعه من نقاشات الشبيحة من إعلاميي وفناني النظام العاملين في ذات الإذاعة لم تعد لديه الرغبة في الذهاب للعمل.

شارك في المظاهرات السلمية التي كانت تخرج في داريا وحي الميدان الدمشقي ونتيجة التشديد الأمني على العاصمة بدأ بالسفر إلى مسقط رأسه  مدينة دير الزور وكان يغيب عنا لشهور بسبب مواظبته على حضور جميع الاعتصامات والمظاهرات  فقد أصبح من الأشخاص الفاعلين في الحراك السلمي في المدينة، واستمر على هذا المنوال إلى أن قرر في منتصف عام ٢٠١٢ أن يذهب بلا عودة حتى إسقاط النظام ولم يشأ إخباري بنيته تلك ولكي يطمئنني اصطحب معه ابننا الأكبر جيفارا، ودعني على الباب وقال لي لا تخافي سأعود بعد أسبوعين فقط والأسبوعان امتدا إلى سبعة سنوات.

بعد سفره بأسبوع بدأت آلة القمع الأسدية المتمثلة بالجيش السوري المجرم  باقتحام مدينة دير الزور  بما عرف وقتها باسم حملة الحرس الجمهوري على المحافظة وكانت من أشرس المعارك وأكثرها دموية ضد المدنيين العزل توقفت على إثر الحملة شبكة الاتصالات المحمولة. في تلك الفترة كنت  أتكلم معهم من خلال الهاتف الأرضي للاطمئنان عليهم وأسمع دوي القذائف وأصوات البراميل المتفجرة تنهال على الأماكن المأهولة بالسكان المدنيين العزل وكان يهدئ من روعي ويقول “اصمدي لقد بتنا أقرب إلى الحرية “، وفي الأسبوع الذي تلاه انقطعت جميع الاتصالات عن مدينتهم ومضت أربعة أشهر دون سماع أي خبر عنهم وكنت أعتمد على ما يعرض في نشرات الأخبار لأتوقع ماذا قد يكون حل بهم.

في الشهر العاشر تلقيت مكالمة من رقم مجهول تحدث إلي رجل قائلًا “ابنك معي تعالي خذيه الساعة وحدة من الكراجات ”  وعندما ذهبت لاصطحابه انهمرت دموعي لحظة رؤيته وبكيت كثيرا على الحال التي آل إليها  فقد أصبح جسمه نحيلا جدا كأنه شبح نتيجة الحصار الذي كان مضروبا حول المدينة لشهور طويلة ، سألته عن فؤاد قال لي ” زوجك حامل الكاميرا وطاير من مكان لمكان”.

علمت بعدها أن فؤاد يعمل ناشطا إعلاميا وإغاثيا في المناطق المحررة هناك أدركت في حينها أن فؤاد اختار طريق اللاعودة طريق الحرية والكرامة ودولة العدالة و المواطنة والقانون، طلبت من جميع أبنائي التكتم على الموضوع وقلت لهم أن يقولوا أن والدهم مفقود إذا تم سؤالهم عنه فإذا تسرب الخبر إلى أجهزة استخبارات النظام  سنتعرض للاعتقال أو التصفية على أيديهم لا محالة لذلك يمنع على أي من الأولاد مناداته بابا عندما يتصل واتفقنا على مناداته  بأبو أحمد، في أحد الأيام اتصل بي على عجل وقال لي “أنا أصبحت مطلوبا للأمن سوف يسألونك لذلك قولي أننا منفصلين منذ زمن ولا تعرفين عني شيئا” وكان يقول  ذلك خوفا على حياتنا.

لم يكن مع عسكرة الثورة وكان من المناهضين للعنف رغم كل همجية وإجرام النظام لأنه كان على يقين بأن النظام سوف يجرنا إلى هذه المواجهة ونحن الأضعف في هذه المعادلة استمر بالعمل الإغاثي والإعلامي في رحاب الفرات إلى أن دخلت القوى الظلامية (داعش) إلى مدينة دير الزور ورغم مناشدة أصدقائه له بالخروج من الدير لكنه رفض وكان يقول لهم “هذه الأرض لنا والفرات لنا لن يهزمونا نحن أبناء الشمس”.

لحظات عشتها كانت أشبه بكابوس مرعب عندما علمت لاحقا كيف تم اعتقاله من المشفى الميداني خلال عمله في توثيق أسماء الشهداء وأسماء المواليد الجدد، غيبته قوى الظلام في ٢٠ /٨/ ٢٠١٤ ومازال مصيره مجهولا إلى حد اللحظة، اتهموه بأنه علماني كافر على حد تعبيرهم ويطالب بالدولة المدنية واسم ابنه جيفارا ومتزوج من درزية.

وها نحن نطوي السنة العاشرة للثورة، نعيش المأساة مع الآلاف من عوائل المعتقلين والمفقودين، تتعلق أرواحنا بأخبار متقطعة متناقضة تارة تؤكد الوفاة وتارة تنفيها. سنوات طويلة قضيتها مع الأولاد بالبحث في قوائم المعتقلين والشهداء التي تصدر بشكل دوري وبين بارقة أمل تلوح في الأفق تارة وخواطر اليأس التي تتملكنا تارة أخرى نقضي أعمارنا في الانتظار على أمل أن نلتقي يوما ما.

انصاف نصر