اختفاء شخص عزيز دون معرفة مكانه أو مصيره يجعل حياتنا عزاءً مفتوحًا. الحداد يختم الأحزان والانتظارات. لكن ما الحال حين لا حداد ولا بيت عزاء يُنصب ليُعلن اكتمال الفقد، وفيه يجتمع المحبّون يتواسون ويعزون فيخففون عنك مُصابك الجلل؛ لا لباس حداد يُدرب أرواحنا على الخسارة؛ ولا عبرات حارقة تُخمد نار قلبك؛ ولا يد حانية تربّت على كتفك.

في الفقد نقف على مسافة واحدة من الموت والحياة. الفقد يبقى هاجسك، روح ثقيلة تسكنك وحدك، حتى لو بكاك وبكى معك يومًا كل من في الأرض.

يمضي الزمن غير آبه بك؛ وتدابير الحياة لا تترك لك فرصة تلملم بها أوجاعك. يكبر الصغير؛ يعود المسافر؛ ينجح الأولاد في دراستهم؛ يموت المُسن؛ يُشفى المريض؛ تتعاقب السنون؛ وحده فقد من نحب يستمر في حفر وتعميق مسار من آلام لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف ولا تنغلق. ثقب أسود يبتلع طاقة الحياة وأفراحها.

منذ اللقاء الأول لنا علمت أنه الشريك الذي سيتكئ عليه قلبي حتى نهاية الدرب. قد يرى البعض أن الفترة الزمنية التي تشاركناها كزوجين فراس وأنا قصيرة، لكنني أؤمن أن العلاقات لا تقاس بالزمن بل بما تتركه من أثر في روحك وعقلك. إلى اليوم استحضر ذكرياتي مع ذاك الرجل المتزن، الهادئ كنسمة؛ الرجل الذي يفرض احترامه أينما حل.

هي ثلاث سنوات زواج، تخللها اعتقالين من قِبَلِ النظام و فصل من العمل عقوبة له على مشاركته في تنظيم الحراك السلمي ببدايات الثورة. هُدد من قبل رجال النظام بالتصفية برصاصة في أحد الشوارع الفرعية المظلمة. بعدها كان القرار بمغادرة الرقة باتجاه تل أبيض المحررة ومتابعة نشاطه من هناك.

فراس الحاج صالح (١٩٧٢)، أب لطفل وحيد(ابراهيم). فراس هو الأخ الأصغر لثمان أشقاء وشقيقة. أسرته معارضة لنظام الأسد الأب والابن. عايش فترة اعتقال ثلاثة من أخوته في الثمانيات كما المداهمات المستمرة لمنزل العائلة بالإضافة إلى الاستدعاءات المتكررة إلى التحقيق والمسوح والدراسات الأمنية شبه الشهرية. كان في الثامنة عشرة من عمره، عندما ماتت أُمه كمدًا و قهرًا على أبنائها المعتقلين في سجون  الطاغية.

لم يكن لفراس أي نشاط حركي قبل اندلاع الثورة السورية، لكنه كان يقف موقفًا معارضًا لنظام الاستبداد؛ ما أن قامت الثورة حتى كان من السباقين للمشاركة بالمظاهرات وتنسيقها، وتقديم المساعدة للنازحين من مواد تموينية وسكن وجمع مستلزمات ضرورية مع العشرات من رفاقه من بنات وأبناء المدينة.

في اليوم الذي أُعلن فيه عن تحرير الرقة. عاد فراس من تل أبيض غير آبهٍ بالقصف الجوي والصواريخ المتساقطة على المدينة. وسرعان ما أصبح منزل العائلة مرة أخرى ملتقىً من أجل التنسيق والتخطيط والأحاديث التي تمتد حتى ساعات الصباح.

لم تمض إلا فترة قصيرة حتى بدأت ملامح تنظيم “داعش” بالظهور والتشكُّل؛ بدأ يفرض نفسه على الناس ويتحكم بحيواتهم؛ وعلَا صوت أتباعه في المدينة. كان موقف فراس من التنظيم واضحاً منذ البداية. شارك بوقفات ومظاهرات جابت المدينة تنديدا بتصرفات “داعش”، كما كان يدعو إلى مقاومة التنظيم صراحة عبر صفحته على تويتر وفسيبوك.

في أحد الأيام أتاني ليخبرني أنه تلقى تهديدًا من قِبَل “داعش” بالتصفية أو ترك البلاد خلال أسبوع. رجوته يومها أن يُغادر خوفًا على حياته. حينها قال لي حاسمًا الحديث بيننا: “هذه مدينتي لن أتركها للغرباء وأنا أحق بالبقاء فيها”.

ما هي إلا خمسة أيام حتى نفذ التنظيم تهديده. في ليلة 19 تموز 2013 وأثناء عودته إلى المنزل ليلاً اعترض طريقه ملثمين مسلحين اقتادوه إلى جهة مجهولة هذا ما أخبرنا به صديق كان برفقته.

جاءني الخبر كصاعقة.

سرعان ما انتشر خبر خطف فراس عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وسرعان ما انتشرت الدعوة بذات الساعة لوقفة أمام المقر الرئيسي لتنظيم “داعش”؛ فاجتمع هناك الأهل والأصحاب واستمرت الوقفة حتى الفجر، لكن التنظيم أنكر وجود فراس لديهم.

بدأتُ بالبحث عن زوجي في المقرات والهيئات قاصدة وجهاء ومسؤولين أنكروا  جميعهم وجوده لدى التنظيم. بعد ثلاثة أسابيع جاءني اتصال هاتفي منهم أبلغوني به  أن أجلس في “العدة الشرعية”  لأنهم قاموا بتصفيته. كدت أنهار من الخبر لولا أن الأصدقاء أكدوا لي أن هذه العبارة يقولها التنظيم لكل امرأة خطفوا زوجها لتفقد الأمل وتكف عن البحث عنه.

 

بعد ستة أشهر من خطف فراس اندلعت حرب شوارع بين تنظيم “داعش” و فصائل أخرى. حوصرنا في المنزل ثلاثة أيام أختي وصغيري “أبراهيم” وأنا. بعد انتهاء القتال أعلن “داعش” سيطرته على كامل المدينة. وقتها قررت مغادرة البلاد باتجاه تركيا ومنها إلى هولندا حيث نحن الآن.

لا تسعفني  اللغة لوصف ما مررتُ به من انكسارات وخيبات خلال السنوات الثماني الماضية. خسارتي أكبر من أن تدون ببضع سطور. فأنا فقدتُ الزوج والحبيب والسند. خرجتُ من بلدي أحمل  بين ذراعيّ طفلا بعمر سنتين.

كيف لقلبي أن يتحمل أسئلة صغيرنا عن سبب غياب والده. السبب الذي احتفظت به إلى أن جاء الوقت المناسب قبل سنة وأخبرته الحقيقة. كيف أصف شعوري وطفلي ينادي الغرباء: “بابا”. فكلما سمع مجموعة أطفال ينادون أباءهم علا صوته على أصواتهم مُناديًا: “بابا”. وما من مجيب.؛فراس ! أريدُ أن أخبرك يا حبيبي أن صغيرنا الجميل أتم العاشرة من عمره، وأن فيه من الذكاء والكاريزما ما يجعله قريب من قلب كل من عرفه. تخبرني المعلمة أن ابراهيم طفل مرح وسعيد فأقول في سرّي: “نعم فعلتها يا فراس” حميتُ قلب صغيرنا من الانكسار ما استطعتُ. أخبرني منذ فترة عن رغبته بوضع صوره التي تجمعه بك في غرفته الخاصة وهذا ما كان.

ما نزال نحاول نحن أهالي المغيبين قسرًا  تحصيل حقنا بمعرفة مصير أحبتنا ولا ندخر جهدًا لذلك. نحن نعلم أن العالم لا يلتفت لآلامنا ونعلم أن الطريق  طويل لكن لن يمشيه أحد عنّا.

صاروا ثمان سنوات يا فراس.

غدير نوفل