في العشرين من آذار تمامًا قبل عيد الأم بيوم، تعود السيدة أسمهان المعمار إلى سوريا بعد ثلاثة شهور من الاقامة عند ولدها محمود المقيم في السعودية، وكانت قد سُلمت هديتها سلفا من قبله، و هل هنالك أجمل من أن تهدي أمك حفيداَ جديداَ كانت وعلى الأغلب قد فرشت له حيزه في قلبها من قبل حتى أن يبعث للحياة؟ . ولمعرفة محمود عن مدى عشقها لأبيه، وعن مدى حرقتها عند فقدانه عام 2008، عقد العزم أن تكون هديته معنونة بورقة حب من الذاكرة فأسماه علاء الدين، تيمنا بأبيه، عساه يكون مبعثة لفرحها ومجددًا حبًا كان قد توشح باللوعة.

لكن، وكما هي عادة كل أم، كان لابد لها أن تعود إلى بيتها في القرية، لأنها لم تقو على فراق أبنائها الآخرين، مع علمها التام أن المبعوجة، وهو اسم القرية حيث يقطنون، تقع على خط التماس المباشر مع مناطق سيطرة تنظيم داعش.

من الواضح أن قرارها كان حاسمًا، فلم تجد محاولات محمود المستمرة لإطالة أمد إقامتها، كانت كل الردود تعود مع عدم الموافقة، يبدو أن قلب الأم لدى أسمهان كان طاغيًا على كل اشارات الواقع يبدو أنها كانت تستشعر خطرًا محدقا بإخوة محمود، فآثرت أن تعود إلى قرية يتربص بها وبأولادها الحقد، على أن تبقى مع الوليد الجديد للعائلة.

وهل من قلب أصدق نبوءة من قلب أم تستبصر الخطر؟ …

لم يلزم النبوءة سوى عشرة أيام لتتحقق…و في الثلاثين من شهر آذار ليلا أسفر داعش عن عيون بنادقه، و اقتحم القرية قاتلًا خمسين من سكانها و خاطفًا من تبقى، و ما كان مصير أم محمود إلا كما قال لها قلبها، فاختطفت و أبنائها ابراهيم،عصام و رشا مع زوجة ابنها وفاء و أحفادها الثلاثة علاء،جودي و تاج.

“على دقائق كان ممكن تفوتها الطيارة، كان بدي أقضي أطول وقت معها قبل ماتسافر، كنا عم نحكي بصالة المطار، ما حسينا بالوقت … يا ريتها لو تأخرت على الطيارة ..يا ريت .. بس هذا هو القدر..”

كذبة نيسان، ليتها كانت كذبة !!

 لم يكن الآخر من أذار يومًا يتبادل فيه محمود كذبة بريئة مع أصدقائه كما يفعل الآخرون، بل على العكس كانت رسالة صديقه ثقبًا أسودًا في حياته، ثقب متوحش يلتهم كل الابتسامات التي كانت تنتظر موعدها.

حلت رسالة صديق محمود عليه كالزلزال فها هو ينبئه أن عائلته بأكملها قد سرقت من حياته، وأن مجرمي داعش أطبقوا على مدنيين أبرياء في قرية العائلة قابضين أرواح بعضهم ومختطفين البعض الآخر. مدنيون ختمت الأرض على أعناقهم أنهم أولاد بلاد قصدها شذاذ أفاق، حكمها مجرمي حرب وأحرقها أبناؤها.

على بعد آلاف الكيلومترات، هناك في غربته التي استحالت أصفاد في يديه، انهمرت على محمود عشرات الرسائل ذات الأخبار المتضاربة حول مصير عائلته، قاذفة إياه في بحر من العجز و القهر المريرين، فمع كل رسالة أمل تتصارع فيه الرؤى و تطغى عليه الهواجس.

ما بقدر أوصف هديك اللحظة .. لمدة يومين كنت أمشي وضهري محني بزاوية قائمة … في مثل بقول الواحد انكسر ظهره ، أي أنا انكسر ظهري …لأن بهديك اللحظة .. ما فيكي تتوقعي شو ممكن يكون صار

 

نافذة نور ولكن

في اليوم الثاني عرف محمود أن أحداُ ما رآهم في قرية كانت تحت سيطرة تنظيم داعش وأن جميعهم بخير، كان هذا الخبر هو بارقة الأمل في خبايا لوحة وحشية طغا عليها الشر بأمقت حلله كان مثل نافذة نور “نجوا أهلي من المجزرة التي انقتل فيها أطفال ونساء وعجائز وانحرقت بيوت …كانت ليلة مرعبة لاتوصف”.

تأكد محمود وأخوته أن عائلتهم بخير وأنه تم وضعهم تحت الإقامة الجبرية في مناطق سيطرة التنظيم و تمكنت العائلة من الاطمئنان عليهم عبر التواصل بالهاتف، تحدثت معهم بشكل مختصر دون سؤالهم على تفاصيل الحادثة ، يقول محمود ” كان كل همي أنه أتطمن أنهم بخير وأن محدا فيهم مجروح أو مصاب … حكيت مع أمي و كالعادة كانت رغم سوء الوضع الي هنن فيه كانت خايفة علينا نحنا الي ببر الأمان … خايفة انو نكون قلقانين أو صابنا شي…كانت خيمة للكل…”.

لم يسعف الوقت محمود وأخوته لتأمين العائلة خارج منطقة سيطرة التنظيم ، فما لبث أن قام التنظيم باعتقال أخويه للمرة الثانية بعد ثلاثة أيام ومن ثم بقية العائلة كاملة في اليوم الرابع. كانت هذه المرة الأخيرة التي استطاع فيها محمود الحصول على أي أخبار حول عائلته، ليدخل بعدها في دوامات من البحث لم يعرف نهايتها حتى يومنا هذا.

 

الكثير من الابتزاز ومن الأمل والخيبات

بدأ محمود مع أخوته بعمليات البحث عن أي خبر أو معلومة قد تساهم في معرفة مصير عائلته وككثير من عائلات المغيبين قسراً في سورية كانوا فريسة للمبتزين وعديمي الأخلاق الذين امتهنوا التكسب من ألام الناس واصطياد ضحاياهم عن خبرة و تمرس و لعبوا دورهم بكل ما أوتوا من خسة و قلة ضمير، طاعنين قلوبًا متلفة كانت قد شاخت باكرا من ألم الفقد و الحرمان.

  يقول محمود ” قبلنا أنو نُبتَز ومع أنو كنا نعرف أنو غالباً  هالأخبار الي توصلني مو صحيحة .. لكن كنا نقول بلكي هالشي بيطلع صحيح بالأخر …والغريق بيتعلق بقشة”.

 لم تكن لدى الأخوة أي مشكلة بدفع أي مبلغ مالي كان، فلا توجد أي خسارة كانت توازي ” خسارتهم بالحياة” ، خسارة ثمان ابتسامات بينها ابتسامات لثلاثة أطفال كانت قد برعمت لتوها.

 تمحورت حيوات الاخوة الأربعة حول طاغوت الفقد ومستجدين الأفكار والوسائل و مستنزفين كل الطرق التي قد تنتشل عائلتهم من الجحيم الداعشي.

خلال عدة سنوات تلقوا معلومات متضاربة حول أماكن تواجد العائلة،  ومع كل أمل منبثق كان آخر يذبو و النهايات كلها اجتمعت على أن تعتصر الخيبات و الحرقة من قلوب الإخوة .فكثيرة  كانت هي المرات التي  بشرتهم بإطلاق سراح قريب للعائلة ، لكن كل ذلك كان سراباً.

حياة ممزوجة بالمرارة

لم يكن لون الحزن حاضرًا فقط في عمليات البحث عن العائلة المخطوفة، بل إنه تسرب حتى طغى على كل تفاصيل حياة العائلة ، فكانت كل ابتسامة شيقة تستحيل فعلًا باهتًا من الشفتين، وكل مرح غض يمسي حرقة شعواء.

لقد أطبق الأسى خناقه و أصبح الفرح ناقصاً، ولو كان عظيماً فإنه “ممزوج بكثير من الألم” ، يشير إلى تلك المصيبة التي حولت حياتهم إلى كابوس يدوم منذ سنين، يشير إلى تلك الوجوه الغائبة والمجهولة المصير. حتى ذكرى ولادة ابنه الأول علاء تحولت إلى ذكرى غياب عائلته في أبشع الظروف، فأصبح أول الفرح بادئة الوجع : ” ابني علاء صار عمرو ٣ سنين وما قدرت احتفل ولا مرة بيوم ميلادو ..بعدين لما وعي علاء قلت لحالي شو ذنبه… كبر و دخل على الروضة والولاد معو بيحتفلوا بيوم ميلادهم… شو ذنبه أنه تكون ذكرى ولادته مرتبطة بذكرى غياب أهلي ..كل تفاصيل حياتنا ممزوجة بمرارة” . مرارة لم تستطع السنوات الستة التي مضت منذ غياب العائلة مداواتها ، فجرح محمود لا يزال ينزف وذكرى صغيرة تحمل وجه أحد الغائبين قادرة على تحويل أجمل اللحظات في حياته إلى مأساة. 

“بتكون بلحظة عم تحكي أحيانا طرفة عن حادثة من ذكريات الماضي بيظهر فيها واحد منن وهون بينهار كلشي و بتتحول النكتة فجأة إلى صمت وحزن…كلشي حواليك بيذكرك فيهن… هي الأغنية لياس خضر بيحبا عصام و هي الأكلة بيحبا ابراهيم و هاد الكاتب بتحبو رشا… وكل مابشوف ولاد من عمر ولاد أخي بقول قديش كانو مليانين حيوية، و هلق وينن؟ وشو صار فين؟ … ألف سؤال بيحاصرنا بكل لحظة من الغياب “

 

كثير من الغضب والإصرار للوصول إلى الحقيقة والعدالة

هذا الطريق الطويل من البحث والمعاناة لم يردع محمود أو يثبط عزيمته في سعيه إلى الحقيقة وإلى تحقيق العدالة لأحبائه المغيبين. رغم كل الخذلان الذي تعرض له والإهمال الذي تعرضت له قضية المختطفين لدى تنظيم داعش من قبل المجتمع الدولي والمنظمات التي لم تتلكأ عن المتاجرة بالقضية، لا يزال محمود يبذل كل طاقته في مساره إلى الحقيقة والعدالة. ” بحاول أني وفر طاقتي النفسية لأني أوصل لشي ، بدي أعرف شو صار ، مين كان أله دور… كل جهدي بحاول وفره لأعرف الشي الي صار، أنا ما بفتح صور كتير .. ممكن أني أحبط وأيأس … بنفس الوقت بحس لازم ضل اشحن حالي بالغضب… هذا الغليان لازم يضل موجود… لازم ضل غاضب على كل حدا تخاذل مع هالناس ألي ما ألها ذنب…..حتى هذه الدول اللي عم تحكي وتنظر وتحتفل بانتصارها على التنظيم… لما نغضب كيف عم يتعاملوا معنا ويتجاهلو وجعنا.. هذا الشي الطبيعي برأيي”.

 

منذ اللحظة الأولى لتأسيس تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية تواصل محمود مع العائلات المؤسسة سعياُ منه لتوحيد جهوده مع جهودها. وبعدها انضم للتحالف في آذار ٢٠٢٠ حيث يعمل مع بقية العائلات من أجل الضغط على المجتمع الدولي للكشف عن مصير أحبائه المفقودين وتحقيق  العدالة لهم مؤمناً أنه هو وبقية العائلات أصحاب حق وأنه لا يمكن لنا أن نسمح بالنسيان أو نسامح على الجريمة.