المبعوجة 30 /31 آذار 2015

أولًا: المبعوجة

“المبعوجة” قرية في الريف الشمالي الشرقي لمدينة السلمية على الطريق الواصل بين مدينتي الرقة والسلمية؛ تبعد عن الأخيرة نحو ثلاثين كيلو مترًا ويقطنها نحو 4000 نسمة يعمل معظمهم بالزراعة.

لم تشهد القرية أي حدث غير اعتيادي قبل ليلة 30/31 آذار2015 المروعة والفاصلة، رغم ما كان جرى حتى ذلك التاريخ من حراك شعبي وقتال وانقسامات اجتماعية وسياسية وطائفية عمت البلاد كلها.

التنوع المذهبي لسكان المبعوجة جعل منها صورة مصغرة ليس للمنطقة المحيطة بها وحسب، بل لسورية كلها. لكن تعدد المعتقدات في جوار المبعوجة الجغرافي سيُحوَّل إلى استقطابات سياسية ستزداد حدة بعد العام 2011.

تجاور المبعوجة من جهات الشرق والجنوب والشمال الشرقي قرى تقطنها عشائر من البدو السنة، ومن الجنوب الغربي قرية سكانها خليط من السنة والإسماعيليين، أما من الغرب فتوجد ناحية الصبورة، وهي المركز الإداري لكل القرى المحيطة بها، وهي تجمع سكاني علوي خالص وموقع ذو دور أمني متقدم في البادية طوال فترة حكم الأسدين.

ثانيًا: المبعوجة وغربها

مع بداية الحراك الشعبي في آذار من العام 2011، بدأت تظهر تمايزات حادة في الموقف السياسي بين المعارضين والموالين. هذه التمايزات سَرَتْ أفقيًا في كل المجتمع السوري وصولًا إلى الأفراد الأسرة الواحدة.

تُشير شواهد سردية عديدة إلى أن النظام عمل خلال تلك الفترة على إعطاء هذه التمايزات في الموقف السياسي بعدًا طائفيًا عبر استغلال وتوظيف حالة التنوع المذهبي في المنطقة. إذ يذكر سكان المنطقة عدة حوادث افتعل بها أنصار النظام وأجهزته مشكلات كان أهالي المنطقة هم مَنْ يسارع إلى تطويقها وحلها. إلّا أن مساعي السكان في احتواء ما تسببه أجهزة النظام من مشكلات لم تصمد طويلًا؛ فقد بدأ النظام بتشكيل ميليشيات مسلحة رديفة لقوات الأمن والجيش. هذه الميليشيات اتخذت من ناحية الصبورة نقطة تموضع.

نشرت هذه الميليشيات عدة حواجز لها في الصبورة والقرى المحيطة في نهاية العام 2011؛ لكنها لم تُقم أي حاجز لها في قرية المبعوجة قبل العام 2015. فقد كان الحس الشعبي في القرية رافضًا لإقامة حواجز بين القرية ومحيطها، إذ رأى في وضع هذه الحواجز عامل استفزاز ومدعاة لإثارة المشكلات بين الأهالي أكثر منه ضبطًا للأمن وصيانة للاستقرار.

ثالثًا: المبعوجة وشرقها

نجحت ضغوط متواصلة من أجهزة أمن النظام والموالين من سكان القرية في تشكيل مجموعات مسلحة حملتْ مسمى “الحماية الشعبية”، وهذه أقامت حواجز لها على أطراف القرية. ومن هذه النقطة بدأت سلسلة مضايقات واستفزازات للمدنيين المارين بالقرية. تكررت هذه المضايقات على الحواجز وتبعتها أحيانًا اعتقالات واعتداءات جسدية.

بدأ التوتر يزداد بين البدو، سكان القرى الشرقية، وأهالي القرية نتيجة هذه الممارسات التي تقوم بها المجموعات التي يقودها أشخاص من الصبورة. وفي ظل هذا التوتر وعلى النحو الذي تشكلت به المليشيات الموالية للنظام بدأت تنتشر في القرى الشرقية البدوية “كتائب الفاروق” ولاحقًا “جبهة النصرة” ولتخرج المنطقة عن السيطرة الكلية للنظام مع بداية عام 2013؛ وبذلك أصبحت قرية المبعوجة والقرى الشرقية المحاذية لها خطًا فاصلًا بين جبهتين متقاتلين.

 ومع ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، داعش، وإعلانه “خلافة إسلامية” على أجزاء من سورية والعراق في 2014، انقسم الأفراد المنخرطين في الكتائب الإسلامية المتواجدة بالمنطقة، منتسبي جبهة النصرة بوجه خاص، بين موال لتنظيم داعش ومعارض له. وهكذا شهدت القرى شرقي المبعوجة صراعًا بين النصرة وداعش للسيطرة على المنطقة.

حسم الصراع في النهاية لصالح داعش بحلول نهاية العام 2014. وتشكلت بذلك خريطة السيطرة في المنطقة كالآتي:

  • يُسيطر تنظيم داعش على الأراضي الواقعة جنوب وشرق طريق السلمية -الرقة. وهذه المنطقة تضم قرى: صلبا، رسم القطشية، مسعود، مسعدة، وكذلك بادية السخنة وتدمر وصولًا إلى الرقة.
  • تُسيطر جبهة النصرة على الأراضي شمال وغرب طريق السلمية -الرقة وصولًا إلى ريف حماه الشمالي بالإضافة إلى مجموعة من القرى جنوب غربي
  • مدينة السلمية وصولًا إلى تلبيسة والرستن.

رابعًا: المبعوجة بين غربها وشرقها

مع مطلع العام 2013 واتساع نشاط جبهة النصرة في المنطقة أصبحتْ المبعوجة هدفًا لقذائف النظام الصاروخية والهاون وعاش أهلها في حال من الخوف والتوتر والترقب. ازدادتْ هذه الحال حدةً مع ازدياد وتائر القصف التي تصاعدت بعد سيطرة تنظيم داعش على قرى شرق المبعوجة في العام 2014.

أنشأ التنظيم وقتها ساترًا ترابيًا طويلًا بين مناطق سيطرته ومناطق سيطرة قوات النظام، ما جعل خروج أهل القرية إلى أراضيهم الزراعية، مصدر عيشهم الوحيد غالبًا، مغامرة يومية يحفها خطرا القنص أو الاختطاف.

بالفعل، ومنذ العام 2013 وقبل بناء داعش الساتر الترابي الفاصل، كانت حوادث العنف المتبادل قد أخذت في التصاعد بسبب الحواجز وتنامي الحساسيات الطائفية والمناطقية؛ كان الخطف والقتل من أبرز مظاهر هذا العنف. في هذه الفترة اختطف عدة أشخاص دون أن تكون لهم بالضرورة أي أدوار سياسية أو أمنية. فقد خطفت جبهة النصرة “علي كلثوم” في العام 2013 ولم يعرف شيء عن مصيره حتى الآن. واختطف تنظيم داعش “موفق الحاج يوسف”، الذي نجح بعدها بالفرار والعودة؛ و”إحسان رزق نيوف” (من قرية عقارب) الذي قتله التنظيم مظهرًا صورة التنفيذ والخبر في أحد إصداراته. واختطف تنظيم داعش “فايز السيجري” من أرضه وأعدمه لاحقًا رميًا بالرصاص؛ كما خطف “أحمد الجندي” الذي لم يُعرف مصيره حتى اليوم.

خامسًا: توزع السيطرة داخل المبعوجة قُبيل المجزرة

قرب نهاية العام 2014، كانت قوات النظام تسيطر على المبعوجة من خلال عدد من الميليشيات، وهذه جميعًا تخضع لميليشيا الدفاع الوطني في الصبورة. وقد توزعت تحت التسميات الآتية: 1- الدفاع الوطني. 2- نسور الزوبعة. 3- صقور الصحراء. 4- الفهود (جماعة النمر). 5- كتائب البعث. 6- جماعة الـ 147 (تابعة للحرس الثوري الإيراني). 7- مجموعة تابعة لحزب الله اللبناني.

لم يقتصر أذى هذه المجموعات الميليشياوية هذه المجموعات على المارين عبر حواجزها من سكان القرى الشرقية، كما سبقت الإشارة، وحسب بل أن الضرب والشتم والإذلال اليومي طال أهل القرية نفسها أيضًا. علاوة على ذلك، تحولت المبعوجة بعد استتاب السيطرة لتنظيم داعش في القرى الشرقية بعد العام 2014 إلى معبر للتهريب تمر عبر إمدادات غير معروفة نحو مناطق سيطرة داعش.

في هذه المرحلة كان نما لدى سكان السلمية وريفها شعور بأن النظام يستخدمهم ورقة للمقايضة وأنه يفتح الطريق للتنظيمات المتطرفة كي تستهدفهم ومن ثم يستثمر هذا الاستهداف لصالح دعايته بوصفه “حامٍ للأقليات” في مواجهة غول التطرف الإسلامي. كان ثمة تخوف دائم لدى أهالي المنطقة من افتعال النظام نفسه لمجزرة أو توفير الظروف لحدوثها إذ في وقتها بأسوأ حال إن على الصعيد العسكري أو الدولي.

قبيل هجوم تنظيم داعش على المبعوجة بساعات كانت حواجز ميليشيات النظام تتوزع حول القرية وفق الترتيب الآتي:

  • حاجز (دفاع وطني) يتموضع في الجهة الجنوبية للقرية طريق المبعوجة قليب الثور.
  • حاجز (دفاع وطني) يتموضع في الجهة الشرقية على طريق المبعوجة صلبا.
  • حاجز (كتائب البعث والدفاع الوطني) يتموضع في الشمال الشرقي على طريق رسم الغاجية (القطشية).
  • حاجز اللجان الشعبية (كتائب البعث) يتموضع في الجهة الغربية على طريق المبعوجة الصبورة.

    قرية المبعوجة بعد هجوم داعش في ٣١ أذار ٢٠١٥

 

سادسًا: ليلة 30/31 آذار 2015: المجزرة والجرح الممفتوح

بدأ الهجوم على قرية المبعوجة من ثلاثة محاور يوم الإثنين في الثلاثين من شهر آذار من العام 2015 الساعة 11:00 ليلاً.

  • المحور الجنوبي: من جهة قرية قليب الثور وأبو حنايا.
  • المحور الشرقي من جهة قرية صلبا.
  • المحور الشمالي من جهة قرية رسم القطشية وأم توينة.

وكأنما أعطى هجوم تنظيم داعش على المبعوجة إشارة إلى قوات النظام وميليشياته من أجل تنفيذ انسحاب منظم وسريع وفتح الطريق أمام مجموعات داعش التي دخلت القرية؛ انسحبت ميليشيات النظام حتى دون إنذار الأهالي تاركة إياهم يواجهون مصيرهم الفاجع وحدهم. وسيذكر أهل المبعوجة هذه الوقائع من تلك الليلة الدامية:

  • على المحور الشمالي، انسحبت قوات النظام من حاجزها هناك قبل حصول أي اشتباك. قوات داعش وجدت الطريق إلى المبعوجة مفتوحًا أمامها.
  • على المحور الجنوبي، انسحبت قوات النظام من حاجزها هناك قبل حصول أي اشتباك. ولم يواجه عناصر داعش أي مقاومة تذكر على الحاجز المُقام على طريق قرية قليب الثور حيث فر المسؤول عن الحاجز مع عناصره قبيل الهجوم. الفارون وتركوا ورائهم السلاح المتوسط والثقيل (رشاش متوسط على عربة ومدفع هاون) واكتفوا بحمل أسلحتهم الفردية. من هذا المحور أيضًا كان الطريق مفتوحًا أمام عناصر داعش الذين وصلوا أول بيوت القرية حيث يقع حاجز آخر مؤلف من أبناء القرية، الذين رفضوا التراجع وقاوموا تقدمهم بشدة حتى قُتلوا جميعًا.
  • على المحور الشرقي، أعطى مسؤول الحاجز أمر يقضي بانسحاب كل الحواجز بعد أول رصاصة أطلقها عناصر تنظيم داعش. نُفذ الانسحاب احتجاج واستغراب بعضٍ من أبناء القرية على الحواجز، فكان طريق داعش إلى المبعوجة مفتوحًا وسالكًا من الجهة الشرقية أيضًا.
  • وعلى المحور الشمالي الشرقي (طريق رسم الغاجية)، حصل اشتباك خفيف (قتل خلاله شابين من القرية)، انسحبت بعده قوات النظام من الموقع.

سابعًا: داعش في قلب المبعوجة

دخلت قوات داعش القرية إثر انسحاب قوات النظام وجرت بعض الاشتباكات بين عناصر التنظيم وبعض الأهالي ممَنْ توفر لديهم سلاح فردي أو سلاح صيد اقتناه بهدف الدفاع عن نفسه وعن عائلته.

استمرتْ الاشتباكات طوال الليل. منذ لحظة دخول عناصر التنظيم الملثمين عند الساعة 11:00 ليلاً في 30-03-2015 حتى السابعة من صباح اليوم التالي 31-03-2015. قوات النظام المنسحبة من القرية تمركزت في الجهة الغربية للقرية. لم يحرك النظام قواته المتمركزة في الصبورة والتي تبعد مسافة خمسة كيلومترات فقط ولا تلك المتمركزة ناحية. وهكذا ترك المدنيين من أطفال ونساء ورجال المبعوجة يواجهون وحشية تنظيم داعش وحدهم تحت أنظار قوات النظام.

في تلك الليلة تمكن عدد من أهل القرية من الهروب من الجهة الغربية ومعظمهم هؤلاء فر باتجاه السلمية في حين بقي القليل منهم في المنازل. لم تطل فترة بقاء التنظيم في القرية وبدا أن الهدف لم يكن أبداً السيطرة عليها إذ أنه انسحب في الصباح بعد أن قتل 50 شخصا واختطف 40 من نساء وأطفال وشيوخ القرية، حيث تم التعرف على مصير 6 أشخاص منهم قام التنظيم بتصفيتهم، وأطلق سراح 24 آخرين بينما احتفظ بثمانية أفراد من  عائلة المعمار واثنين من عائلة عطفة، وحتى يومنا هذا لا يعرف أحبتهم شيئًا عن مصيرهم.

اليوم وبعد مرور 6 سنوات على مجزرة المبعوجة لا يزال الجرح مفتوحًا وراعفًا. لا تزال عشرات الأُسر تنتظر خبرًا عن طفلة خُطفتْ ويتوقعون أن يروها فتاة ناضجة؛ ولا يزال حفيدٌ يسأل عن جدةٍ لا يذكر تفاصيل وجهها، لكن يحتفظ بذكرى شعور غامر بالدف والطمأنينة يخدره في لحظات غفوته بحضنها؛ ولا تزال شابةٌ أنهت اليوم دراستها تنتظر أباها لتقرأ له يومياتها التي دونتها في غيابه المديد.