تستعاد في ذاكرتي أحداث السنوات الأولى للثورة في الرقة بحسب عمل الذاكرة العشوائي والغريب، هذه الذكريات قد تثير في وجداني مشاعر فرح وفخر غامرين، كذكرى لحظة إسقاط تمثال حافظ الأسد من قبل ثوار الرقة، إلا أن بعضها لا يثير في إلا الألم والمرارة كقصف المدينة المحموم والعشوائي من قبل النظام  بعد تحريرها مباشرة، هذا القصف الذي أصاب غالبية أهالي الرقة بالخوف والإحباط، خوف حتماً أصابني البعض منه لكني كنت متأكداً من قدرتي على تجاوزه بدافع أملي الكبير وقتها بانتصار الثورة وقدرتها على الصمود، لكن مع إصرار أهلي على المغادرة كنت مضطراً للمغادرة معهم، حيث لم يكن وقتها هناك أحد غيري متواجد معهم ويمكنه قيادة السيارة للخروج بهم إلى تركيا مع بعض الأقارب، لتكون رحلة الهجرة الأولى لي والتي أستعيدها أيضا بكثير من الألم، فمع وصولي لتركيا ومع توالي الأنباء عن الوضع السيء للمدينة، وقعت تحت وطأة سؤال يلح علي بشكل دائم وهو” كيف لي وأنا من كوادر الثورة ومن الحالمين بانتصارها أن أغادر الرقة بعد انتصار ورفع علم الثورة فيها ؟”، هذا السؤال أعادني بعد أسبوعين إلى الرقة رغم خوف الأهل ودموع أمي . بعد مرور سنة على وجودي في مدينة الرقة ومع بدء ظهور ما يعرف بالدولة الإسلامية – داعش في نهاية عام 2013، كنا أنا وأسامة الحسن وأحمد في إحدى الأمسيات مجتمعين في كافتيريا الفراديس في محافظة الرقة، عندما جاءنا خبر أن الورقة التي كنا قد حصلنا عليها سابقاً والتي تتضمن أسماء الأشخاص الذين قرر تنظيم داعش اختطافهم كانت حقيقية، وأغلب من في هذه الورقة قد تم اختطافهم بالترتيب ومن بينهم فراس الحاج صالح والدكتور اسماعيل الحامض. نظرنا إلى الورقة مرة أخرى لكي نعرف من التالي حسب القائمة، تحسسنا رقابنا التي كانت تسعى إليها داعش بالترتيب، وصولاً إلى الأشخاص الأكثر فاعلية من المعارضين الأكبر سناً الملهمين للشباب وذوي المكانة المرموقة في المدينة. كان من بين تلك الأسماء، اسم الأستاذ مصطفى سليمان، الفنان التشكيلي الذي تعلمت عل يده الرسم والفن وقبلهما الأخلاق ومعنى الحرية. لم نستطع إقناع الأستاذ مصطفى سليمان بالخروج من المدينة، فقد كان على قناعة تامة أن خروجه من الرقة يعني عدم استطاعته العودة مرة أخرى إليها وهذا ما كان يردده باستمرار، مما دفعني أنا وأحمد وأسامة لأخذه ليلاً بسيارة أجرة لكي توصله الى الحدود رغماً عنه. أما أنا ومن تبقى من الشباب بقينا في الرقة وإن بشكل مشتت. في تلك الأثناء كانت هناك حملة قوية لتغيير مسار الثورة وتحويلها من ثورة للحرية والكرامة الى ثورة إسلامية وخلال تلك الفترة اخُتطف أغلب الشباب الناشطين في الثورة السورية، من بينهم أصدقائي وزملائي أسامة وحسام الحسن، كما هاجر معظم المؤثرين في الشارع وبقيت الساحة شبه خالية. وقتها كنت عضوًا في جريدة “ثوري أنا” وهي جريدة محلية مناهضة للنظام السوري وداعش، كنت أرسم فيها بعض الكاريكاتيرات التي تنتقد أفعال وممارسات داعش باسم مستعار (المختار) تجنباً لمصير يصل للإعدام لو علمت داعش بأمري حينها.

 

لوحة من حملة” علمنا” قبل وبعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الرقة

 

بدأت ملامح المدينة تتغير بشكل تدريجي، فتوقفت الجريدة عن النشر ومسحت داعش أغلب لوحاتنا التي رسمناها على الجدران واستبدلتها بشعاراتها المتطرفة، حيث لم نستطع القيام بأي شيء. كنا عاجزين أمام رجال مسلحين ينظرون الى المدنيين وكأنهم أعداء ولا يفهمون إلا لغة السلاح. وفي كل يوم يمر كنا نفقد أحدًا جديدًا من شباب الثورة على يد التنظيم وفي تلك الفترة تم اختطاف الناشط إبراهيم الغازي الذي كان يعمل معنا في حملة “علمنا” والتي كنا نقوم من خلالها برسم علم الثورة على الجدران. أيقنت وقتها أن لا خيار لدي إلا الهروب وإن كان قد أصبح خياراً صعباً حينها حيث سيطرت داعش على المنطقة كلياً، بحيث لا تخرج سيارة من المدينة إلا ويقوم داعش بتفتيشها، كما أن البقاء كان مستحيلًا لأن داعش سيطر على كامل تفاصيل المدينة.

قبل ان أغادر المدينة، كان عليَّ أن أذهب الى مكان واحد لأنجز مهمة كانت بمثابة عملية انتحار لكل من أخبرته بها. أردت أن أقوم بإنقاذ ما تبقى من لوحات المركز الثقافي الذي أمضيت فيه جزءاً من حياتي. لم أتردد بالطلب من زملائي بأن يرافقوني في هذه المهمة ،أغلبهم عارض الفكرة إلا ثلاثة منهم وافقوا على الذهاب معي من بينهم رسامين. كانت الطريقة الوحيدة للدخول إلى المركز الثقافي أن نقول لعناصر تنظيم داعش أن لدينا بعض الأقلام والكتب والأدوات التي نريد أخذها.  لم يكن الأمير موجودًا يومها ، وإنما فقط بعض العناصر الذين كان التعامل معهم أسهل. وهذا ما حصل، دخلنا الى المركز الثقافي، كان المكان أشبه بمكب للقمامة، لوحات كان العمل عليها يتطلب سنين ملقية على الأرض وممزقة مع كتب في كل زاوية، واضح عليها اثار دعس الأقدام، أخذنا بعض الأقلام واستطعنا أخذ بعض اللوحات معها بغفلة عن أعينهم.

بعد ذلك تواصلت مع بعض اصدقاء الثورة وأخبروني أنهم ذاهبون مع كتيبة للجيش الحر ستوصلهم للحدود ،لكن تبين لاحقاً أنه ليس هناك مقعد شاغر لي في السيارة ،لذلك كان علي أن أنتظر وقتاً أطول لندبر أمر خروجي ،انتظار يحمل في كل لحظة منه احتمال اختطافي إلى أن أتت فرصة الذهاب مع عمتي التي اقترحت بأن أذهب معها وأخذ هوية ابنها الذي كنت اشبهه وهذا ما كان .في طريق الخروج  استوقفتنا حواجز التنظيم المتواجدة على طول الطريق وكنت أتنفس الصعداء كلما تجاوزنا أحد هذه الحواجز دون أن يكشف أمري، في الحاجز الأخير ساور الشك أحد العناصر حول هويتي، فقام بإنزالي من السيارة، مؤكدًا أنني لا أشبه صورة الهوية، بقيت صامتًا وكل الركاب كانوا ينظرون الي، بعد عدة دقائق تجرأت وقلت للعنصر “لقد مررت على أكثر من حاجز ولم يقولوا هذا.” ، عندها تدخلت عمتي قائلًة: “إنه ولدي وما ظل أحد يشبه نفسه بعد كل هذا القصف والدمار والخوف الذي حدث في بلدنا”. كان تدخلها هو ما أنقذني وسمح لي بمغادرة أرض الخلافة بسلام والتي قال لي فيها أحد الدواعش “ستبقى تتنفس حتى يمكننا الله في الأرض” فقلت له “انا شخص أبسط مما تظن”. بقيت أتنفس واندحر التنظيم، بعد أن خلف ويلات من القتل والتدمير والاختطاف والتهجير لا زلنا حتى هذا اليوم، نحن سكان هذه المنطقة المنكوبة، نعاني تبعاتها.

 

بعض من أعمال الفنان عمر غالب والكاريكاتيرات المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية  :