في هذه الشهادة، تروي الآنسة منى فريج وهي ناشطة مدينة، قصة هروبها من تنظيم داعش . تسرد كيف حاول عناصر التنظيم اعتقالها وقاموا بضربها وإهانتها في منزلها في مدينة الرقة وكيف استطاع الجيران والأقارب حمايتها ومساعدتها على الهرب من مصير كان سيحول حياتها لكابوس.

عدت إلى الرقة في العاشر من أيلول 2014، وكنت قد قررت أن استقر بشكل نهائي حيث أمي وأخوتي وأخواتي، كانت أمي مريضة جداً فأردت أن أبقى بجانبها غير آبهةً لما سيكون من قصف أو نزوح، فلا طعم للحياة من دون أهل. أخذت أرتب أموري بالاستقرار، أزور الأصدقاء والأقارب وأحاول البحث عن عمل.
في اليوم الثاني لعودتي تم قصف المدينة وتحديداً الحي الذي أسكن فيه وقد استشهدت جارتنا، ذهبت للعزاء مع أختي فكانت فبدت نظرات الناس مرعبة، حيث سألتني الكثير من النساء إن كنت أنوي الاستقرار فأجبتهم بنعم، فقالوا لي أن هذا خطر على حياتي في ظل وجود داعش، أجبتهم أننا لن نموت إلا في يومنا.

عدت للمنزل ولم أكد أفرح بعودتي واستقراري بين أهلي وفرحهم بعودتي للحياة معهم حتى جاء ذلك اليوم الذي غير حياتي كلها وقلبها رأساً على عقب، يوماً كدت أفقد فيه حريتي لا بل حياتي كلها.
في 15 من شهر أيلول أي بعد خمسة أيام من عودتي، بينما كنت جالسة في حديقة المنزل أتابع الأخبار عبر صفحة الفيس بوك وأمي في الغرفة التي بقربي ترقد في سريرها، طُرق باب المنزل بقوة، كانت الكهرباء مقطوعة وصوت المولدة مرتفع مما منعنا من سماع صوت الطارق، ذهب ابن أخي ليفتح الباب ولم أشعر إلا وبامرأة تسألني؟
“هل أنت منى فريج؟”
بقيت صامتة وظننت أنها إحدى بنات عمي التي لم ألتقيها منذ مدة طويلة تريد ممازحتي، لكنني أفقت من ذهولي عندما وقفت زوجة أخي وهي تقول لها لا “إنها ليست منى ،منى في تركيا “. رفعت رأسي وإذ برجلان مسلحان يرتديان الزي الباكستاني برفقة إمرأة مسلحة ترتدي العباءة والنقاب:
“هل أنت منى؟”
“لا أنا أختها.”
لم يتجرؤوا على أخذي لأنهم ليسوا على يقين بأنني “منى،” فطلبوا مني لابتوبي، عندها خطر لي أن أحمله وأركض إلى غرفة المعيش حيث تجلس أمي، أحتمي بظلها، كنت أعرف أنها مصدر أمني وحمايتي، فلحقوا بي ومباشرة وبكل ما أُعطيتُ من قوة قلبتُ طرفي اللابتوب بالعكس فكسر وأصبح قطعتين. لم يعجب تصرفي عناصر داعش فأخذ أحدهم ا بسحبي من شعري إلى حديقة المنزل ورمى بي أرضاً، وضع قدمه على صدري والبندقية على رأسي مهدداً بقتلي. هنا أرادت زوجة أخي دفعه بعيداً عني فأخذ يطلق الرصاص في الهواء باعثاً الخوف في قلوب كل من في المنزل ومهدداً الجميع بالقتل لو أتى أحد منهم بأي حركة. كان يصرخ بجنون طالباً منهم إخباره من منا منى وأين هي. كان المشهد هستيري، قصير لا يتعدى بضع دقائق، لكنه كافي ليستدعي الذهول والرعب، انتهى بتدخل أختي التي دفعت العنصر الداعشي عني.
كان الناس قد تجمعوا ودخلوا إلى منزلنا بعد سماع إطلاق الرصاص ورؤية سيارات تنظيم داعش أمام المنزل. وما كان من أحدهم إلا أن سحبني من يدي وطلب من النسوة الإلتفاف حولي ومساعدتي على الهرب عبر سطح المنزل، مؤكداً أنه سيفتعل مشكلاً مع رجالات التنظيم من أجل تحييد نظرهم عني. بالفعل أخذت أزحف نحو السطح والنساء مجتمعات على طول الدرج، يحاولن حمايتي قدر المستطاع، حتى وصلت وقفزت مع أحد أولاد عمي إلى بيت جيراننا في الحي الذي خلفنا.
عندما نزلت طلبت منهم ما يمكن أن أرتديه حيث كنت بثوب البيت وبلا غطاء للرأس، أخذت منهم العباءة والخمار والدرع، وهو اللباس الشرعي المفروض من قبل التنظيم على النساء في مدينة الرقة وطلب ابن عمي من سيارة أجرة أن توصلني حيث أريد.

اتجهت نحو منزل إحدى الصديقات ولكني خفت بـأن أتسبب لها بالمتاعب وخصوصاً أنني رأيت الخوف في وجهها، فقررت الذهاب إلى منزل الدكتور اسماعيل الحامض، كانت قد اختطفته داعش في الثاني من تشرين الثاني ٢٠١٣ وبقيت زوجته مع بناتها الأربعة وابنها في الرقة تنتظر عودته. وصلت إلى المنزل وقلبي يرتجف من الخوف، طرقت الباب، فاستقبلتني إحدى بناته (هبة) بالترحيب الجميل كعادتهن ولكن ملامح وجهها ورنة صوتها تغيرت حين لمحت الخوف في عيني ورأت حالتي، طلبت مني الدخول ونادت لأمها (زبيدة). طلبت زبيدة مني أن أستلقي قليلاً كي أرتاح وبعدها تفهم مني ما حصل. فتمدّدت على الأريكة عدة دقائق مُغمضة العينين، أخذت أنفاساً عميقة ثم نهضت، شربت كأس ماء، كنت في حالة من الصدمة والذهول، فسألتني زبيدة عما حصل معي، ولم تكمل سؤالها حتى انفجرت بالبكاء وأطلقت كلماتي المخنوقة بصوتٍ مبحوحٍ:

“كانوا بدهم يأخذوني يا أم حازم، هجموا على بيتنا، وهربت من بين أيديهم بقدرة قادر.”

كانت يداي ترتعشان، والدمع يسيل على خدي وأنا أروي لهم قصة هروبي من طرفي كماشة الدولة الإسلامية. لم أكن حينها “منى” التي يعرفونها، منى القوية ذات الصوت الجهوري الذي يملأ الساحات في المظاهرات والاعتصامات، كنت امرأة مكسورة مخذولة يملأ قلبها الخوف وترتجف شفاهها بالحديث. لم أكن تلك الفتاة التي تنشرُ الفرح، الفتاة الضحوكة والمُبتسمة دوماً والتي لم تستطع قوات الأمن في السابق كسر إرادتها وشغفها للحرية. كنت امرأة مكسورة خائفة، تحت حكم جلادين جدد أهانوها في بيت أهلها،هؤلاء الذين يدّعونَ الإسلامَ ونهجَه، وهم اقتحموا منزلاً دون أن يطلبوا من النساء أن يتسترن على الأقل، ضربوا إمرأة مسلمة بهذه الهمجيّة. هل هذا هو الإسلام الذي جاؤوا به؟

حاولت عائلة الدكتور اسماعيل تهدئتي وطمأنينتي بأني سأكون بمأمن في منزلهم حتى أستطيع الهرب من هذه المدينة المُرعبة، لكن محاولاتهم كانت بلا فائدة. فقلبي كان مجروحا وروحي تنتحب وغير قادرة على استيعاب ما حصل. قضيت عدة أيام في منزلهم طغى علي وعليهم الحذر والخوف خصوصاً بعد أن بدأ بعض أفراد أسرتي بالتردّد على المنزل، وهذا يعني أن مراقبة بسيطة من قبل الدولة الإسلامية لهم كفيلة بأن تُودي بنا إلى المجهول.
حاولوا إقناعي أن وجودي في هذه المدينة مخاطرة كبيرة، وأنّني لست مضطرّة لعيش تجربة قاسية فقط لأنّني لا أريد أن تتحول الرقة إلى مكان لا أستطيع زيارته إلا بأحلامي. خصوصاً بعد أن سمعنا بضع تسريبات بأن رأسي مطلوب بتهمة شتم الخليفة، وأن التنظيم قد أخذ اللابتوب واستطاع أن يستخدم “الهارد ديسك” ويستحوذ على ما بداخله من خصوصيات وكتابات.
وهكذا أصبحت بين بينين: بين حبي لمدينتي وأهلي وخوفي على نفسي وبين وجه أمي الدافئ ووجه المنفى البارد. بقيَت مترددة أياماً حتى رضخت في نهاية الأمر مُفضلة عدم الاحتراق بنار داعش، فقررت لملمة جراحي والرحيل عن مدينة مليئة بالقهر.
في 18 أيلول/ سبتمبر2014، قدم أحد الأصدقاء إلى منزلهم ليصحبني على أنّي زوجته إلى تركيا حيث حملت هوية الزوجة الحقيقية للرجل، ولأنني سأكون منقبة فلن يستطيعوا اكتشاف الأمر.
جلسنا جميعاً الساعة ثالثة فجراً ننتظرُ الحافلة التي ستقلنا، كان البعض يراقب الشارع خوفاً من وجود أي عناصر تابعة للتنظيم، والآخر يهدئ من روعي وروع الرجل الذي سيصحبني لأن أي خطأ كفيل بأن يُعرّض كلينا للخطر.
بعد أن وصلت الحافلة إلى المنزل عانقوني وهم يتمتموا لي بدعوات عديدة، دعوات هي كانت حرزي للوصول إلى بر الأمان.
“بحمى الرحمن، الله يبعد عنكون عيونهم، توصلوا بالسلامة.”
انطلقت الحافلة وقلبي يرتجف من الخوف ولساني يتمتم بكل الصلوات والآيات القرآنية وخصوصا عندما كنا نقف على حواجز داعش حيث يزداد الخوف والاضطراب. أنا خائفة على نفسي وعلى الرجل الشهم الذي غامر بروحه من أجل إنقاذ حياتي. بعد أن وصلنا إلى الحاجز الأخير عانقني بكل حب وبكينا معاً، كنا نبكي الإنجاز الذي حققناه فقد نجوت من سيف الخلافة ولم يعد هناك المزيد من الحواجز كي نخافها وهذا أعظم الإنجاز لمن يعيش في مملكة الرعب التي كانت تحكمها داعش. وصلنا حدود تركيا واتصلت بأمي، قديستي، لأطمئنها أنني وصلت بر الأمان، أخذت تبكي هي وأخواتي وأخوتي وتدعو الله لي أن ييسر أمري ويوفقني في دروب غربتي. كان قلب الأم قد استشعر بأن هذا الوداع هو الأخير بين الأم وابنتها، حيث أنني لم أرى وجهها بعد ذلك اليوم فقد غادرت هذه الحياة بعد ثمان شهور من رحيلي.